بعد نصف قرن على بعثها.. تعرف أكثر على حكاية “الإسلام أو الطوفان”

Cover Image for بعد نصف قرن على بعثها.. تعرف أكثر على حكاية “الإسلام أو الطوفان”
نشر بتاريخ

ارتبطت هذه الرسالة في كتابتها بمدينة مراكش، مدينة التاريخ والحضارة والجمال وملتقى الثقافات، وما إن تزورها حتى تطوف بك في تاريخها العريق، وتذكرك برجالاتها السبعة ومن قبلهم من المجاهدين والصالحين الذين كان لهم تأثير عظيم في تاريخ الأمة. تذكرك بمن أسسها “يوسف بن تاشفين” الملك الصالح المجاهد كما يصفه الأستاذ عبد السلام ياسين رحم الله الجميع، وما تزال تنجب تلك الأرضُ الرجالَ ويُصنع على أرضها التاريخ إلى ما شاء الله…

لم تكن مدرسةٌ تحمل اسم واحد من “سبعة رجال” هو “الإمام الجزولي” بحي دوار العسكر، تعلم أنها ستكون في موعد مع تاريخ لا يمكن فصله عن الأحداث الكبرى لهذه الأمة، وهي تحتضن رجلين في ليالٍ متتابعةٍ من صيف سنة 1974م، وهما يرقنان بالنمط القديم حرفا حرفا، رسالة سيكون لها ما بعدها بعد إعلانها.

في حجرات هذه المدرسة رقن الأستاذان “محمد العلوي السليماني” و”أحمد الملاخ” رسالةَ نُصْحٍ كتبها الأستاذ عبد السلام ياسين إلى الملك الراحل الحسن الثاني، ليبدأ بها مرحلة جديدة لعبد السلام الداعية ذي السلوك الجهادي، ويضع بها نهاية لمرحلته السابقة في النهج الصوفي داخل الزاوية.

يعلمون يقينا أن الثمن هو الموت

يعلم الإمام يقينا ومعه صاحباه، وهم يقدمون على عملهم، أن ما هم مقبلون عليه خطير جدا في مغرب السبعينيات؛ “مغرب سنوات الجمر والرصاص”، بل يعلمون مستسلمين قاصدين عازمين أن “الثمن هو الموت” كما يحكي الأستاذ محمد العلوي السليماني. ولكنهم لم يتراجعوا.

فمن تكون لتكتب رسالة نصح إلى الملك، مع ثقل ما تحمله هذه العبارة، ومن أين لك بهذه الجرأة؟ وأيُّ دار للطباعة والنشر ستَقبل طبع هذا الكلام؟ وأي مكتبة ستروج للرسالة؟

صورة غلاف الطبعة الأولى من رسالة الإسلام أو الطوفان

كتب الإمام بكل عزيمة هذه الرسالة، وعرضها على صاحبيه، اللذين نسب إليهما باعتراف منه كل الفضل بعد الله عز وجل في طبعها، يقول الأستاذ محمد العلوي السلمياني: “سيدي عبد السلام كتب “الإسلام أو الطوفان”، وعرضه علي أنا وسيدي الملاخ وطلب منا قراءته، وبعد قراءته عبر عن رغبته في طبعه ليستوي في كتاب، فقلت له: سيدي عبد السلام هل تعرف مدى خطورة هذا الكلام الذي تقوله هنا، فقال لي: نعم أعرف جيدا وثمنه هو الموت”.

وتابع: “أخبرنا بخطورة العمل، وطلب منا استخارة الله في هذا الأمر، ومن كتب الله له شيئا فليتوكل على الله”، هكذا يحكي السليماني رحمه الله عن عزيمة الإمام فيما أقبل عليه، وزكى ذلك كلام الأستاذ أحمد الملاخ رحمه الله: “كان سيدي عبد السلام مصرا على أن يخرج هذا الكلام إلى العالم، وأن تصل هذه الرسالة إلى من كتبت إليه”.

فهو رحمه الله رأى أن من واجبه قول كلمة الحق عند سلطان جائر، ولم يكن يريد بذلك إلا وجه الله عز وجل، وشهادته تلك “هي كلام لا يموت أبدا”.

العلوي والملاخ سافرا إلى الدار البيضاء لاقتناء معدات تقليدية لطبع الرسالة بنفسيهما

ومع العزيمة على تبليغ الرسالة، ومع اليقين من أن أحدا من أصحاب المطابع لن يجرؤ على قبول طبعها، بقي السؤال مطروحا، كيف السبيل إلى طبعها؟ فما كان من الرجلين المجاهدين العلوي والملاخ إلا أن صمّما على القيام بالمهمة بنفسيهما. يحكي الأستاذ أحمد العلوي نجل الأستاذ العلوي أن الرجلين “سافرا في سبيل ذلك إلى مدينة الدار البيضاء، فاقتنيا معدات تقليدية يدوية للطباعة، وتمرّسا عليها جيدا، ثم باشرا المهمة بعد ذلك”.

وذكر الأستاذ نور الدين الملاخ، نجل الأستاذ أحمد الملاخ، أن الظروف التي طُبِعت فيها هذه الرسالة صعبة وقاسية ولا تنفصل عن مسارها كلّه، فتحدث عن اشتغال الرجلين بالساعات الطوال في الليالي الصيفية من تلك السنة لإعداد ذلك العدد من النسخ، فكانا يأخذان ورقات مكتوبة بخط يد الإمام، فيظل الملاخ في تصفيف الحروف واحدا تلو الأخر، وجملة تليها أخرى في تلك المدرسة، وبعد تصفيفها يطبعها الأستاذ العلوي بطريقة إنزال اللوحة الخشبية على الورقة.

وقد ذكر سي العلوي رحمه الله هذا الكلام في إحدى شهاداته، وقال: “كان سيدي أحمد الملاخ يأتي من عند سيدي عبد السلام بورقة، ثم نطبعها ليلا”، وهكذا ورقة بروقة، ليلا بليل، إلى أن اكتملت الرسالة في طبعها.

الرسالة التي أرسلت إلى الملك عبر الوالي تحمل أسماء الرجال الثلاثة وعناوين سكناهم!!

نسخا من الرسالة بتلك الشاكلة أعدادا كثيرة، فأرسلوها إلى العلماء والفضلاء عبر البريد، وكانت لوائح أسمائهم قد أعدت بعناية، فأرسلت معها نسخة خاصة إلى الملك الحسن الثاني تحمل أسماء الرجال الثلاثة وعناوين سكنهم؟!

“انتهينا من توزيع الرسالة وبقينا ننتظر” بدت هذه العبارة من سيدي العلوي وكأنه بدأ يستوعب حجم العمل ومستوى خطورته بعد الانتهاء منه، والمفهوم أنهم بقوا منتظرين مصيرهم وما سيُفعل بهم بعد هذه الخطوة.

تحكي زوج الإمام عبد السلام ياسين، لالة خديجة المالكي رحمها الله أنها لم تكن على علم بهذه الخطوة منذ البداية، لكن الإمام أخبرها في منتصف العمل من باب الإعداد النفسي لها وللأبناء حول العواقب المنتظرة، تقول: “قال لي أنا أكتب رسالة إلى الملك، لتكونوا على استعداد لكل الاحتمالات، فقد يعتقلونني، وقد يخفون عنكم أثري، وقد يقتلونني”، لما كانت رحمة الله عليها تحكي هذه الشهادة قبل وفاتها في إحدى الأشرطة المصورة، ظهرت على وجهها أمارات وكأنها مثلت شعورها الأول، وبدا عليها التأثر، لكنها هدأت من روعها بنفسها ببقية كلام الإمام لها حينها، واسترسلت تقول: “فقال لي: لكن رحمة الله واسعة، وعليكم ألا تيأسوا من رحمته ولا تقنطوا، وما دمت أشتغل في سبيل الله فهو لن يفعل إلا الخير”.

وما لبثوا بعد ذلك كثيرا حتى تحركت آليات الشرطة ورجال الأمن، واقتادوا الرجال الثلاثة إلى وجهة غير معلومة، وتركت أهاليهم في حيرة وخوف على مصيرهم.

مستشفى الأمراض الصدرية والعقلية.. وسجن درب مولاي الشريف

كانت الليلة الأولى من رمضان سنة 1394هـ “ليلة يرثى لها” لعائلة الإمام كما روت زوجه الكريمة لالة خديجة المالكي رحمها الله، التي ذكرت بحال أكثر وقائع الاعتقال. فقد اقتادوه في سيارة إسعاف، على أنه “مجنون ومريض” إلى مكان غير معروف لم يعلم إلا فيما بعد.

قبل اعتقال الإمام وحسم مصيره، ارتبك النظام في طريقة التعامل معه، وبدا أن الأمر يحتاج إلى إخراج خاص، حيث أشارت الأستاذة ندية ياسين في إحدى شهاداتها السابقة إلى طريقة اعتقال أبيها واقتحام البيت، وأكّدت أن من اقتحموا المسكن حينها أغلقوا الأبواب والنوافذ واستغرقوا وقتا في تفتيش البيت والبحث بين الكتب الكثيرة لوالدها، وما لم يفهموه أو لم يُستسغ لهم، هو وجود عدد من الكتب عن الفكر اليساري في مكتبته.

سجن رحمه الله سنة ونصف في مستشفى الأمراض الصدرية، وسنتين في مستشفى الأمراض العقلية، بينما الأستاذان العلوي والسليماني سجنا في سجن درب مولاي الشريف لمدة سنتين، وقد أدّيا على يد رجال الأمن ما قدر الله لهما من البلاء، وأوذيا أذى كثيرا. وأمضيا خمسة عشر شهرا على الأرض، وفي البرد الشديد، يأكلان الخبز اليابس الملطخ بالبترول، والعدس الممزوج بالحصى، كما ذكر ذلك الإمام رحمه الله في إحدى مقابلاته.

الرسالة وثيقة انفصال جذري عن الزاوية في الفكر وفي الموقف السياسي

ورغم أن الرسالة واضحة المرجعية، لكن رجال الشرطة تساءلوا: ما محل هذه الكتب وما سبب وجودها بهذه الكثرة في خزانته؟ كان تخوفهم من أن يكون منتميا إلى تنظيم سري ما أو يكون وجها يساريا أو غيره مقَنَّعا بالأفكار التي ضمنها في الرسالة. لكن الكتب الكثيرة في مكتبة الإمام رحمه الله، ليست إلا مؤشرا على سعة اطلاعه، وتمكنه من فكر الأغيار من مختلف الثقافات ومختلف العصور. واطلاعُه الكثير ذاك مكنه من تشكيل ثقافته، وبناء تصوره الأصيل، الواقعي، المستقبلي، ومضى فيه، وكانت هذه الرسالة مما استهل به هذا المشوار.

رسالة “الإسلام أو الطوفان” كانت في حقيقتها إيذانا ببداية منحى جديد في سيرة الإمام، وتحولا كبيرا من التهمم بهمّ الشخص إلى حمل هم الأمة، وتجاوز أفكار الزاوية. ولم يحصل ذلك إلا بعد تفكير طويل، وكان قد حقق الله له ما يطلبه المريد من الشيخ في السلوك الصوفي.

فمن جهة كانت رسالته تلك تعبيرا واضحا عن هذه الأفكار الجديدة، لأنها كانت رسالة شاملة عبرت عن واقع البلد وما ينبغي أن يكون عليه، وأرادت الخروج به من واقعه إلى مستوى أفضل. ومن جهة ثانية، كانت وثيقة انفصال كلّي عن الزاوية في الفكر وفي الموقف السياسي، وفي فهمه للماضي وللحاضر والمستقبل كما عبر هو عن ذلك بنفسه.

وزير الداخلية ابن هيمة لعبد السلام ياسين: وصلتني رسالتك وأشكرك عليها..

دخل الرجل ُيمضي فترة سجن مقنعة بقناع “المستشفى”، وكانت بالنسبة إليه فترة هدوء وتأمل وتفكير في ظاهر الأمر، وفترة ذكر عميق وفترة خلوة، ومناسبة لملازمة الأذكار، وقد راجع ما فقده من القرآن الكريم واسترجعه استرجاعا جيدا، واطلع على علم كثير كثير.

ومما حصل معه في معتقله –المشفى- ذاك؛ أن رفض تلبية دعوة الملك للمثول بين يده، كما أنه كتب رسالة أخرى إلى وزير الداخلية الأسبق محمد بنهيمة، تحمل مضامين كتاب “الإسلام أو الطوفان” نفسه، لكن بصيغة أخرى وباللغة الفرنسية، لأن القوم لا يقرؤون ما كتب بالعربية كما يقول رحمه الله، وكانت تلك الرسالة سببا في تشديد الخناق عليه من قبل عميد الشرطة هناك في مراكش، لكن الوزير كان رده رفيقا، وقال للأستاذ عبد السلام ياسين: “بلغتني رسالتك وسأقرأها وأنا أشكرك عليها” 1.

ولم يلبث كثيرا بعد ذلك حتى أفرج عنه، فهل “اتعظ” وتراجع أم واصل مسيرته التي صمم على المضي قدما فيها، وهل استمر معه صاحباه اللذان لقيا ما لقياه من عذاب بعد تعاونهما في طبع “الإسلام أو الطوفان” أم تراجعا؟ وما كانت وجهته بعد الإفراج؟


[1] حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، منير ركراكي وعبد لكريم العلمي، مكتبة سراج، ص 25.