قيمة الجوار.. حكايات من حيّنا القديم

Cover Image for قيمة الجوار.. حكايات من حيّنا القديم
نشر بتاريخ

عندما سمعت عن حملة “جارك قبل دارك” استرجعت رصيدي الطيب وذكرياتي الجميلة مع جارات أمي الغالية من نساء حينا اللواتي سبقننا إلى الدار الآخرة، واللواتي أتعهدهن في دعاء الرابطة كلما دعوت لأمي.

كنا نسكن حيا شعبيا تتكون شرائحه من مزيج من القبائل المجاورة للمدينة ممن هاجروا للبحث عن ظروف أفضل للعيش في رحاب المدينة، هذا المزيج كان سببا في تلاقح الثقافات والأعراف والتقاليد الاجتماعية، وكان سببا أيضا في الاختلاف والمشاحنات في كثير من الأحيان.

ومع هذا وذاك، فصورة حينا الذي تربيت في جنباته وقضيت فيه أجمل أيام عمري ما زالت عالقة في ذهني، ممزوجة ألوانها بالفرح والسرور والحنين إلى الماضي، وبالحسرة والأسف على ما آلت إليه بعض الأحياء في الوقت الراهن بفقدها دفء الجوار وتخليها عن معنى أصيل كان يحكم علاقتنا مع جيراننا سابقا، وهو: “جارك قبل دارك”.

لهذه الكلمة حقها ومعناها في الإسلام، فالسيرة النبوية العطرة تنقل لنا مواقف جليلة للحبيب المصطفى وحسن تعامله مع الجار، حتى وإن كان خارجا عن ملة الإسلام.

ولها حقها أيضا في واقع المجتمع المغربي الأصيل الذي يعطي للجوار مكانة عظيمة ورفيعة؛ فكثير من المغاربة مازالوا يعتزون بالعلاقة بين الجيران ويفتقدون بكل حسرة أواصر الجوار التي تجذرت في المجتمعات سابقا؛ لأننا تربينا جميعا على هذه القناعة: “جارك القريب احسن من خاك البعيد”.

وأنا- حقا- استشعرت معناها في تفاصيل الحياة داخل حينا، فكنت أرى في جارات أمي جميعهن خالتي التي تبعدنا عنها المسافات الطوال وتزورنا من عام إلى عام، وكنت معتادة على احترامهن وتقديرهن قولا وفعلا، ولا أناديهن إلا بـ”حبابي فاطنة” أو “حبابي خديجة”… تعبيرا عن الحب والقرب والتشريف، وأقبل اليد كلما صادفت إحداهن في الطريق دون ضجر أو استثقال.

لا أبالغ إن قلت إنني أحتفظ إلى الآن بصورهن البريئة في مخيلتي، وأحفظ عهدهن وودهن مع أمي، وأعترف بفضلهن في نسج شخصيتي، وأعتبر بأخلاقهن طول حياتي.

تذكرني “حبابي فاطنة” بعادة جليلة جدا: هي كثرة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاسيما عند دخولها على الصبية، إذ كانت تقبل رأسهم وتقرأ عليهم “قل هو الله أحد” مع الإكثار من الصلاة على النبي، وتقول عبارتها المشهورة: “حجاب الله عليكم يا ملايكة الرحمن” اعتقادا منها أن الصبية كالملائكة ماداموا لم يرتكبوا ذنبا أو معصية..

وأما “حبابي شامة” فكانت طبيبة القلوب التي تضمد جراج نساء الدرب وتخفف عنهم الآلام وتواسيهم في ظلمهم أو قهرهم وتجبر بخاطرهم وتهون عليهم، وتحاول الإصلاح بينهم وبين أزواجهم.

كانت تحمل “هيدورتها” المعلومة وتجلس عشية في رأس الدرب تنتظر من تأتيها مثقلة لتخفف عنها أحمالها وآلامها بمرح ودعابة وترفيه، لتعود إلى بيت زوجها مفعمة بالأمل والتفاؤل والرضى.

وأما “حبابي فاطمة” فأعرفها من خلال حكاية أمي وشهادتها العظيمة في حقها، فقد كانت امرأة كريمة تكرم النساء الحوامل في فترة “الوحم” وتعد لهن ما تشتهينه من طعام رغم بساطتها وقلة حيلتها، فهي لا تتوانى في تلبية رغباتهن فيما يشتهينه من وجبات. ووصل بها الأمر إلى أن تسأل نساء الحي إن كانت بينهن امرأة حاملا تطعمها وتلبي حاجتها دون طلب منها، حفظا لماء وجهها.

ناهيك عن “حبابي منانة” التي كانت تتعهد أطفال الحي وتراقبهم بكل حرص وحذر في غياب أمهاتهن، فكانت تحمل عكازتها وتقف في مدخل الحي تمنع كل طفل غابت أمه من الذهاب بعيدا، وتحرسه كل الوقت مخافة أن يلحقه شر في غيابها، وتحاول إيناسه ببعض الحكايات الشعبية المثيرة التي كانت تحمل في طياتها دروسا وعبرا وقيما علقت تفاصيلها في خيالنا إلى اليوم. وإلى جانب ذلك كانت تلهيهم ببعض قطع الحلوى حتى لا يستصعبوا غياب الأم أو يشعروا بطوله.

بجوار هؤلاء العظيمات ما كانت أمي تحمل هم شظف العيش، ولا هم الأعياد والمناسبات العائلية، فقد كن كخلية النحل يتعاون على قضاء حوائج بعضهن البعض ويتفنن في ذلك مراعاة لحق الجوار. تجدهن في الأفراح والأتراح كالجسد الواحد لا تستكثر الواحدة منهن بذل مالها وجهدها ووقتها في سبيل إسعاد جارتها ومساعدتها. تألم الواحدة منهن لألم جارتها، ولا يهنأ لها بال إلا بالمبادرة إلى خدمتها بما تملك وتستطيع.

كانت بيوت جيراننا كبيوتنا مع مراعاة آداب الزيارة والاستئذان. كانت أمهاتنا توصيننا جميعا بستر عورات البيوت واحترام أهلها، ويشددن علينا إن نحن أزعجنا الجيران بضجيجنا وكثرة حركاتنا، أو أسأنا الأدب مع كبار السن وشيوخ الحي.

أما المرأة الأرملة فكان لها شأن كبير في حينا، يتنافس الصغار والكبار والنساء والرجال على خدمتها، ولا يريدون منها جزاء ولا شكورا. وفي “العواشر” والمناسبات الدينية يفيض مطبخها من كثرة ما تحمله إليها جاراتها من حلويات…

وأما المريض أو الشيخ العاجز عن الحركة الذي تمنعه ظروفه من حضور عرس أو عقيقة في حينا، فكان أول من ينعم بالوليمة لحرص الجيران عليه غائبا أكثر من حرصهم على الحاضر.

تلك إذن قيم ومواقف جليلة عشتها في حينا القديم مع جارات أمي، بعثتها في قلبي هذه الحملة الإنسانية “جارك قبل دارك”، وأجد نفسي مسؤولة عن حفظها والتعامل بها وغرسها في الأجيال القادمة، لأنها قيم نبيلة تشد عضد الأسرة والمجتمع، وتحفظ الإنسان من كابوس العزلة والانزواء وخطر الأنانية المفرطة التي أصبحت تهدد كينونة الإنسان.