كتابة تاريخ جديد

Cover Image for كتابة تاريخ جديد
نشر بتاريخ

سمية أبويعلى

“أنا أسمع لها… وصوت القذف يرجف قلبي؛ وهي كأنها تتحصن بتلاوتها، ختمت منذ قليل وقالت: أريد أن أرتل عند الله وأرتقي”. “إذا قربت على فلسطين، احرز شو بعمل فيك… أنا فلسطيني والكل فلسطيني”. “بيخوفوني بموت بابا… لكن بابا طلبها ونالها”.” والله لو هدموا كل غزة، والله لو قتلوا الكل في غزة … ما بنساوم”.” ايش بتلعبو؟ احنا بنلعب الشهيد حبيب الله”. “سبحان الله، الحمد لله ، لا إله إلا الله، الله أكبر.” “لا إله إلا الله، بينتقموا منا في ولادنا لكن معلش، إنا لله وإنا إليه راجعون”. “هي دموع الإنسانية، وليس دموع الخوف أو الجبن. هذا قدرنا، هذا خيارنا لن نحيد عنه والخزي لإسرائيل”.

الصور الماثلة أمامنا؛ هي تجسيد لفضاء مخنوق محاصر، وشاهدة على حدث مؤلم مفعم بالرعب، تتمزق فيه الذات الإنسانية، وتتوزع بين انشطارات مزدوجة جسمية ونفسية، سواء على مستوى ذوات الأطفال الفلسطينيين، وذوات الرجال والنساء وذات القارئ وقت تلقيه صور الموت والدمار والخراب والآهات…

تلك الصور جامعة لمعاني التأوه والخوف، وباسطة في نفس الوقت لمعاني الأمل واليقين والقوة والثبات، وحاملة لسمة التوتر والدرامية.

مقاطع ومشاهد، كثيرة، تصور كمّا هائلا من الأحاسيس والمشاعر الذاتية والنفسية والوجدانية، وقدرا كبيرا من المعاناة والمأساة، كما تعكس صورا تلازم الإنسان الفلسطيني في كل لحظة من لحظات حياته، موزعة أنفاسه بين صوت القذائف، وبين البحث عن مأمن يختبئ فيه، عن بيت دافئ يقيه شر بطش العدو الصهيوني المتغطرس، ومنشطرة أحاسيسه بين فقد الأحبة، ومواصلة السير لتفقد الناجين، ومواساة الجرحى والثكالى  واليتامى، والبحث عن آخرين  تحت الأنقاض. في ظل هذا الوضع المؤلم لا شيء يهز كيان الفلسطيني، فهو موقن قلبه، مطمئن فؤاده، فرح بقدر الله ومحتسب؛ فصورة  طالبة القرآن بمعية معلمتها، وهي تلحّ عليها أن تختم القرآن وسط نيران القذائف، وصورة الطفلة التي لم تتجاوز السبع سنوات، تقف وقفة الرجال، وتعطي درسا للعدو في معنى  الشهادة في سبيل الله ومعنى السكينة والثبات. وصورة آهات الثكالى والأرامل واليتامى تصعد إلى رب السماوات والأرض. وصورة الصحفي الذي استشهدت زوجته وابنه وابنته، يقدم موعظة عظيمة اليوم في الثبات والصبر والتحمل والاحتساب.

كل هذه الصور هي واصفة ومجسدة لحدث مأساوي؛ وهو إبادة غزة وطمس هوية الفلسطينيين، وكاشفة لانفعالات الشخصيات، وراسمة لمعالم فضاء (فلسطين-غزة) الذي حوله الاحتلال إلى خراب ودمار، غير أنه لم يستطع أن يطمس هويته، ويزعزع ثوابته، وأنّى له ذلك.

إن السؤال المركزي الآن: ما هو الحافز والباعث على قوة ويقين وثبات وإقدام هؤلاء؟

لقد أحدث المقاوم الفلسطيني/ الإنسان اليوم، انعطافة مهمة في تاريخ القضية الفلسطينية برمتها. فالمنعطف الحالي الذي تعيشه الأمة اليوم، هو واحد من المنعطفات الكبرى في تاريخها، وإذا تذكرنا في تاريخنا المعاصر المنعطفين الكبيرين، منعطف 1948، ومنعطف 1967؛ فالمنتظر أن يكون المنعطف الحالي أكبر بكثير مما سبق. وإذا كان منعطف48 -67 بطعم النكبة والنكسة، فهو الآن بطعم العزة والانتصار رغم الدمار.

إن ما قامت به المقاومة يوم السابع من أكتوبر؛ هو كتابة تاريخ جديد لشعب عظيم، لمقاومة باسلة هزت كيان العدو وبعثرت أوراقه، وأربكت جميع خططه، ومن هول الصدمة، لم يستوعب العدو بعد تلك الضربة الاستباقية  التي أتلفت جميع حساباته.

ولم يتخيل أبدا في يوم من الأيام أن يجد نفسه في هذا الموقف المخزي. لطالما كان ينظر إلى المقاومة الفلسطينية نظرة احتقار واستصغار واستهانة واستخفاف، ولا يعلم، وفاته أن يعلم، أن نساء ورجال فلسطين قادرون بعون الله وقوته على بناء أجيال صنعوا الفرق وانتقلوا من طفولة ترمي الحجارة، إلى رجولة ترسل القذائف والصواريخ، وتقف على ثغر من ثغور المسلمين، غزة الأبية، وتحمي حدودها بعزة وهيبة.

فاته أن يعي أن نساء فلسطين هن القدوات المربيات لرجال الغد، ولمثلهن تشرئب أعناق المسلمات. فاته الكثير.

إن هذا الشعب الفلسطيني ما وهن وما ضعف وما استكان؛ لأنه موقن بالله ومؤمن بربه وبقضيته المصيرية، فهو صاحب الأرض والدار والقرار، ولأنه كذلك  وهب أمره لله ولرسوله. وهذا هو الحافز الكبير والباعث القوي لدى المقاوم الفلسطيني/ الإنسان.

وبالمقابل، تغيب عن العدو الإسرائيلي المتغطرس معاني الإيمان بموعود الله، معاني البذل لنصرة هذا الدين وهذه القضية الأساسية والحاسمة، تغيب عنه وتسلب منه معاني الإنسانية ومعاني الرجولة ومعاني الشهامة والمروءة.

لقد أصبح الآن واضحا، أن الفلسطينيين في كل ربوع فلسطين، يصنعون لنا عزة جديدة ويحرروننا من الخوف والجبن والتثاقل والاستسلام، ويحيوا في الأمة من جديد معاني العزة والهمة والإرادة والاستيقاظ. ولن يحلم العدو الإسرائيلي الظفر بالنصر أبدا، بل لن يحلم حتى بسماع كلمة استسلام من الفلسطيني الحر الأبي.

فغزة تكتب اليوم تاريخا جديدا بإذن الله. والله مولى الذين آمنو والذين كفروا لا مولى لهم.