1. في سياق حوار صريح
يتميز كتاب “حوار الماضي والمستقبل” 1 بكونه ثمرة من ثمرات المنهج الحواري الهادئ والصريح الذي سلكه الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله مع العلماء والدعاة والنخبة المثقفة والحزبية بالمغرب، منذ ثمانينيات القرن الماضي حينما ألقى محاضرته الشهيرة باللغة الفرنسية تحت عنوان حوار مع النخبة المغربة). ولا تخلو كتبه ورسائله من آثار المنهج الحواري الذي يستقصي الآراء ووجهات النظر ليكون الموقف النقدي في نهاية المطاف مبنياً على أسس الاستدلال ومقاصد الإقناع.
جاء الكتاب – الذي يقع في 348 صفحة ويتألف من تسعة فصول ومقدمة ومدخل وخاتمة – ضمن سياق حوار فكري وسياسي جاد وفعال 2 مع الفضلاء الديمقراطيين والمناضلين السياسيين الذين يزعمون وراثة الحركة الوطنية التي واجهت المستعمر الفرنسي، وكافحت لانتزاع الاستقلال الوطني في منتصف القرن العشرين. ومع الذين يتهمون الحركة الإسلامية بمعاداة الديمقراطية ومتطلباتها، والذين يدافعون عن القضايا اللغوية والثقافية الأمازيغية.
ولما كان الحوار يتنزل منزلة مركزية في نظرية المنهاج النبوي، بوصفه السبيل الوحيد لتحقيق التقارب الفكري والسياسي وتأسيس عتبة التفاهم بين الإسلاميين وباقي المناضلين والمثقفين بشأن قضايا التغيير ومراحله وأساليبه، وبوصفه أيضا البديل الثابت عن العنف والاقتتال.
لمكان هذا الحوار وضرورته التاريخية وأهميته الاستراتيجية، أكد الإمام رحمه الله على تحري الوضوح والدقة قائلا: لا نتصنع الأسلوب الأكاديمي المحايد «العلمي» المرتاح، المتدثر في أحضان العافية «الموضوعية». بل نعلن أن الإلحاد سخافة عقلية، وأن الردة عن الدين كارثة في الدنيا على الأمة، خزيٌ أبدي في الجحيم لمن اغتر بسخافاتٍ أفرزتها العقول الكافرة المريضة المطبوع عليها) 3 .
وبالوضوح نفسه، صرح الإمام رحمه الله بموقفه من نظام الاستبداد: يحتكر النظام الوراثي المستهتر بالدين الكلام باسم الإسلام. فهو المفسر للإسلام، المرجعية الوحيدة في شؤون الإسلام، المعبّر الشاعر في إسطبلات الثقافة الغربية اللاييكية، في أرض الجنيات السبع الحانيات المعبودات المشكورات الـمُشْرَكات مع الله. تركض به العقيدة الفاسدة في متاهات التزييف على الإسلام كما تركض به سياسة الديمقراطية الحسنية في سوق صناعة الانتخابات المزيّفة) 4 .
كما أن المعيار المعتمد لدى الإمام رحمه الله في الحكم على ماضي الحركة الوطنية، وحاضر التخبُّط، ومستقبَل الإسلام هو الإسلام لا غيرُ. هو الإخلاص لدين الله، هو الصدق في دين الله عقيدة وشريعةً وجهادا لنصرة دين الله) 5 .
2. القضايا التاريخية والفكرية
كتب الإمام عبد السلام ياسين في مستهل الكتاب، موضحاً أن تأليفه يهدف إلى النظر في المباني الفكرية والتاريخية للحركة الوطنية، وخاصة للنخبة المثقفة المغربة يمينا وشمالا) 6 ، ولذلك أفرد فصولا طويلة لمساءلتهم عن «العقلانية» التي أصبحت إلى جانب أخواتها وبُنَيَّاتها «الديمقراطية» و«اللاييكية» و«العلمية» الكلمة المفتاح، الكلمة الشمس الساطعة على الكون المثقف بالثقافة الغربية، المشعة منه، الكاشفة عن أسرار الماضي وحقائق التاريخ وآفاق المستقبل) 7 .
هكذا اشتمل كتاب حوار الماضي والمستقبل) – على مجموعة من القضايا والإشكالات المتنوعة التي تتصل بماضي الحركة الوطنية وحاضر الأحزاب السياسية والنخبة المثقفة، ومستقبل الإسلام والمشروع الإسلامي. ويمكن تصنيف تلك القضايا – وإن كانت غير منفصلة – إلى نوعين اثنين؛ قضايا تاريخية وقضايا فكرية.
– القضايا التاريخية: قدم الإمام مقاربة نقدية لمجموعة من القضايا التاريخية ذات الصلة بماضي الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية في المغرب، وذلك ليُعرَفَ من أيْنَ جاءت، وإلى أي مستقبل يؤهلها ماضي جهاد رواد الحركة الوطنية إن هي سلكت مسلَكهم -وكانوا أهلَ إيمان- أو تنكَّبتْ طريقهم وتخاذلت عن نصرة الإسلام) 8 . ثم ليطلعَ الجيل الجديدُ المنهمكُ فِي ارتباكات حاضرٍ كئيب على مآتِي المشاكل التي يتخبط فيها الناس، ومَصَبَّاتِها، ومساربِها، وتسلسُلِ أحداثِها، وتوليد أفكارها، وتفاعلِ الجيل الوطني من المؤمنين مَعَ مقتضيات الصراع مع الاستعمار. ثم استجابةِ الجيل الثاني لنداء الفكر الثوري التقدمي الذي غزا الأدْمغة، وراغَ بالمخضرَمين عن معاني نَشأتهم في حضن الوطنية المؤمنة إلى اتجاهات تائهة انحدرتْ عَقدا من الزمان بعد عَقد، وسنةً بعد سنةٍ، وَجولة في السياسة بعد جولة، وتوغُّلاً وتَغوُّلاً. تفاعل وراغ بعض الماثلين أمام الشعب، الواثقين بأنفسهم، المتزعمين، الـمُدّعين أنهم ممثلو الشعب وحدهم، وغيرُهم هبّتْ به الريحُ التاريخية كما تهب الرياح بالهُباب) 9 .
وباعتبار أن جوهر الصراع اليوم يتجسد في أحقية “تمثيل الإسلام”، لما تشهده النخبة المثقفة والحزبية من تنامي قوة حاملي المشروع الإسلامي، واتساع دائرة القبول لكلمتهم ودعوتهم، فقد اهتم الكتاب ببيان احتكار النظام السياسي الوراثي منذ عقود لتبني كلمة الإسلام، نفاقا وتمويها، وبيان مسيرة التحول اللاديني للنخب والأحزاب المغربية. قال الإمام رحمه الله:
ننظر في عقائد القوم المغربين نسائلهم عن حقيقة إسلامهم من حيثُ نقارن ماضي المجاهدين الذين كان الإيمان، والإيمان وحده نابضةَ قلوبهم ووَتَرَ عزائمهم بحاضر طبقة مخضرمة متأليكة، وأخرى نشأت في أحضان نضالية ثورية ملحدة ترتمي يوما من أيام نضالها الفاشل في أحضان الأب الأمير الفذ العبقري الإمام في فنون التدليس والتركيس، تلتقط الحَبَّ من أياديه المبذرة) 10 .
ومن بين تلك القضايا والملفات التي قاربها الكتاب:
– مسألة الاستقلال المزيف؛ وقد استعار للتعبير عن مضمونه كلمة “الاحتقلال” من البطلِ الريفي المجاهدِ محمد بن عبد الكريم الخطابي.
– قضية العنف الدموي الذي تفجر بعيد الاستقلال: وهو صنفان متصارعان أحدهم العنف الإيديولوجي اليساري والآخر العنف المخزني الذي استطاع أن يدجن خصمه ويدخله في بيت الطاعة.
– قضية الذات المبعثرة التي نجد منها أشخاصاً منهم من احتواه النظام المخزني لكفاءته، ومنهم من لاذ بالنظام المخزني وأخْدَمَ نفسَهُ النظامَ المخزنيَّ على فضله وإخلاصه، هروبا من معضلةٍ لا تنحلُّ: معضلَةِ العدل الممتنِع، والاندماج الاجتماعي الذي فَشِلَتْ في تحقيقه الممارسات الثورية السفاكة، والشعارات المتوازنة الديمقراطية) 11 .
– القضايا الفكرية والتربوية: كتب الإمام رحمه الله في الموضوع بحثا عن أجوبة لأسئلة مقلقة: كيف، ولِم، وفي أي اتجاه، وبأية آليات فكرية ودينامية سياسية اجتماعية انتقل جيل مخضرمٌ كان على مذهب من اتخذوا لأعمالهم الجهادية شعار «الإيمان، والإيمان وحدهُ» إلى زندقة مفلسفة، وزيغ سياسي، وإلحاد سَافر؟) 12 .
لم يكن التحول التاريخي والسياسي في مسيرة الحركة الوطنية منفصلا عن المؤثرات الفكرية الغربية التي أسهمت بحظ وافر في بعثرة الذات الجماعية، بل في تأجيج الصراع بين أشلاء هذه الذات، وانتزاع المبادرة فيما بعد من جيل المؤسسين الوطنيين المؤمنين. هكذا أصبح البحث عن بناء الذات مطلبا ضروريا لأي خطوة حقيقية نحو المستقبل الإسلامي، مثلما صار من الضروري افتحاص جملة المؤثرات الفكرية التي شوهت التصورات وغيرت المفاهيم وحولتها عن مصادر المؤمنين المجاهدين، أمثال محمد بن عبد الكريم الخطابي ومحمد المختار السوسي، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية.
في هذا السياق، اجتهد الإمام عبد السلام ياسين في بيان الحديث عن العقلانية ماذا تعني؟ ما أصلها وفصلها ونشأتها وتطورها في الفكر الـمُغَذّي بواطن بعض الناس؟ خاصة ما هي العقلانية التي نرفضها، وما هي العقلانية المرادفة للحكمة العملية العلومية التي هي حاجة العقلاء من الناس) 13 .
كما درس قضايا فكرية مثل اليسار والتقدمية، ومسألة الصراع بين السلفية والصوفية، مستحضرا حجم التحول عن التربية الإيمانية والفكرية المتكاملة لدى الوطنيين المؤسسين.
[2] صدر للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله سنة 1994 كتاب “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى” وكتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”، وسنة 1996 كتاب “الشورى والديمقراطية”، وسنة 1997 كتاب “حوار مع صديق أمازيغي”.\
[3] حوار الماضي والمستقبل، ص 21.\
[4] حوار الماضي والمستقبل، ص 16.\
[5] حوار الماضي والمستقبل، ص 7.\
[6] حوار الماضي والمستقبل، ص 20.\
[7] حوار الماضي والمستقبل، ص 20.\
[8] حوار الماضي والمستقبل، ص 5.\
[9] حوار الماضي والمستقبل، ص 6.\
[10] حوار الماضي والمستقبل، ص 17.\
[11] حوار الماضي والمستقبل، ص 252-253.\
[12] حوار الماضي والمستقبل، ص 11.\
[13] حوار الماضي والمستقبل، ص 20.\