ولجت مهنة التربية والتعليم بحب وشغف، هي في نظرها مهنة تلائمها باعتبارها امرأة مجبولة على الحنان والرفق والرحمة، فهي تكمل في المدرسة ما يبدأ في البيت؛ تزرع القيم، وتعلي الهمم، وتغرس فضائل الأخلاق والقيم في شتلات هي من سيبني صرح الوطن، وتجلي ظلام الجهل، وتنير العقول، بما تعلم وتزود من معان سامقة وعلوم رائقة، وتفتح أمام المتعلمين آفاق البحث وإعمال الفكر، وتشجعهم على المباردة والابتكار. وإضافة إلى هذا وذاك تلملم جراح المكلوم، وتداوي المكسور، وتجبر الخواطر، وتواسي المقهور، وتفتح صدرها لمن يحتاج دعما رغم آهاتها المكتومة، وآلامها المخفاة المبرحة، وتصغي لمن يحتاج إلى إنصات. هم أبناؤها و بناتها، تتقاسم معهم لحظات الفرح، وتعينهم على تخطي العثرات والنكبات، وتأخذ بيدهم ما استطاعت إلى بر الأمن والأمان، فهي مثال وقدوة، ومنارة تنير طريقهم نحو بناء الوطن، فحبها لهم وحبهم لها هو من ينعش الفؤاد، ويحيي الأمل، ويمحو الألم، وينمي الإحساس بالانتماء إلى مجتمع هم سواعد بنائه، ومستقبل آماله، ولبنات تأسيس غده.
ماذا تستحق المعلمة من أوسمة؟ بل من يفيها حقها؛ من شكر لمعروفها وحياة ضميرها، وصبرها ومصابرتها، ومرابطتها في ثغر حساس هي الأمينة عليه، والواقفة سدا أمام من يبغي اقتحامه؟
لم يألف أحد من رجال أو نساء التعليم من الوزارة مكافأة على حسن الفعال، والحرص على الإخلاص في مهمة تدك الجبال، وفي ظروف قد تجعلهم يصارعون في معركة دون سلاح أو ضمان أو حتى حماية أو أمن وأمان، فقد ماتت معلمة في ضواحي طنجة بعدما جرفتها السيول، فهي شهيدة معركة غير متكافئة، لم تؤمن فيها الوزارة هذه الشهيدة وأمثالها من الكوارث والمخاطر، وما انتظر أهل التربية والتعليم صدقة أو تكرما، فنفوسهم أبية، وخدمتهم للعلم والتعليم مزية، ترفعهم أعلى مقام، فهم يعفون عن أي حاجة أو سؤال.
لكن الكرامة بها تكتمل إنسانية الإنسان، والدوس عليها عار في حق من هم زبدة المجتمع وملحه، لذلك وقفت الأستاذة وغيرها من الأساتذة الأحرار يصرخون بصوت واحد من أجل استرداد ما ضاع، واستعادة ما انتهك، فخرجت من وسط الجموع، بعدما برحها الألم، وأثخنتها الجروح، وأوجعها العقوق والنكران والحرمان، ولم تتمالك إلا أن تنتفض أمام التمادي في الغي والفساد والظلم ممن اعتادوا التطاول على حقوق الأستاذ، وهي التي سجنت في سلم معلوم لسنوات طال عدها، بعدما نسيت في قاعة الانتظار وليس بينها وبين التقاعد إلابضعة أيام، فالإحساس بالقهر ينخر الفؤاد ويدميه، ويفقد الأمل في وطن أسهمت في تربية أبنائه على حبه، لقد انفلتت دموعها العصية، وفاضت أمام الأشهاد، لتسطر إمضاءها بخط عريض على قتامة وضع التعليم في دولة لا تعترف بعطاء رجاله ونسائه، ولا تقر بدورهم، ما دام قطاع التعليم لا ينتج الدراهم، لكنه فقط يبني العقول ويزرع القيم ويعلي الهمم.
ألا كفكفي الدمعة يا أستاذة، فدموعك غالية، وارفعي هامتك عاليا، فبأمثالك نفتخر، فعزتك عز للأوطان، ولا عاش من باع أو خان.