“كلا والله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم”

Cover Image for “كلا والله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم”
نشر بتاريخ

أولى الإسلام عناية كبيرة للقيم الأخلاقية، فمن العوامل التي تؤدي إلى سقوط الدول وانهيار الحضارات تفشي الموبقات وانتشار المفاسد والمظالم.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ” (1)، وعندما أسرت سفانة بنت حاتم الطائي قال لأصحابه: “خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق” (2).

من القيم العظيمة التي أوصى الإسلام بالحرص عليها والتي تحافظ على لحمة المجتمع؛ صلة الرحم. قال الراغب الأصفهاني: الرحم رحم المرأة، ومنه استعيرت الكلمة للقرابة لكونهم خرجوا من رحم واحدة.

عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله” (3). ويزداد الأمر وضوحا في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: فاقرؤوا إن شئتم: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (4). ذلك لأن الله تعالى جعل الجزاء من جنس العمل، فمن وصل رحمه وصل الله أجله ورزقه، ومن قطع رحمه قطع الله في رزقه وأجله. نفهم من هذا أن قطيعة الرحم من أكبر المعاصي وأسوء الأعمال، توعد الله فاعلها بالعقاب الشديد في الدنيا والٱخرة. يقول صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدخر له في الٱخرة من البغي وقطيعة الرحم” (5).

وللأهمية التي تكتسيها صلة الرحم في الإسلام فإن قاطع الرحم لا يقبل عمله، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أعمال بني ٱدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم” (6). بل إن صلة الرحم تفيد صاحبها وإن كان بعيدا عن ربه لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: بصلتهم لأرحامهم” (7). فكيف إذا كان المؤمن والمؤمنة إلى جانب صلتهما لرحمهما حريصان على دينهما، متقيان ربهما؟

في المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تحتل الأسرة مكانا متميزا، لأنه لا ٱستقرار دعوي بغير ٱستقرار أسري، وقد أدرج رحمه الله صلة الرحم ضمن شعب الإيمان التي جدد جمعها وتبويبها بطريقة تستجيب لواقع الأمة المفتون.

لا أحد ينكر أن مجتمعاتنا الإسلامية قد أصابها ما أصاب الغرب من تفكك للأسرة وقطيعة للوشائج الاجتماعية بسبب تقليد المسلمين الأعمى للغرب، وإن لم نسرع بتدارك الأمر وندق ناقوس الخطر فإن الواقع ينذر بأوخم العواقب.

تتبوأ صلة الرحم مكانا متميزا إلى جانب الأخلاق العالية السامية، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والٱخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ألا ومن أراد أن يمد في عمره، ويبسط في رزقه، فليصل ذا رحمه” (المستدرك).

تكون صلة الرحم بأمور منها:

– الصدقة على ذوي الرحم؛ عن سلمان بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة” (8).

– الدعاء بظهر الغيب؛ “دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: ٱمين ولك بمثل” (9).

– وتكون حسب حال الموصول؛ بالمال أو الخدمة أو الزيارة أو السؤال.

يقول الحافظ بن حجر في فتح الباري: قال القرطبي: “الرحم عامة وخاصة، العامة: رحم الدين وتوصل بالتحاب، والتناصح، والإنصاف، والقيام بحقوق الأخوة في الدين، أما الرحم الخاصة، فبالنفقة، وتفقد الأحوال، والتغافل عن الزلات”.

وأضاف الإمام ياسين رحمه الله: “صلة الأخوة الإنسانية التي تنتظر منا أن نبلغها ونسمعها الخطاب الإيماني الإحساني”.

– والصلة ليس لها حد أو شكل معين، كل ما يحقق هدف التواصل مقبول، فيمكن أن تكون الصلة مهاتفة أو مكاتبة إن تعذر لقاء الأشباح.

– صلة رحم الوالدين بعد موتهما؛ عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: “بينا نحن عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما” (10).

ومن الأمور المساعدة على صلة الرحم:

– معرفة الثواب الجزيل لمن يصل رحمه.

– التغافل عن الأخطاء ومقابلة الإساءة بالعفو.

– الابتعاد عن التكلف.

– تحملهم والإحسان في التعامل معهم واحتساب ذلك لله تعالى.

قطيعة الرحم من الموبقات الكبيرة، توعد الله صاحبها باللعنات وبخزي الدنيا والٱخرة، يقول سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (محمد، الآيتان 22 – 23).

ويقول رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه: “من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه” (11).

نسأل الله أن يعصمنا من هذا الزلل الكبير وهذا الانحراف الخطير، وأن يجعلنا من المبادرين لصلة أرحامنا وإن بدرت القطيعة منهم، فيتحقق فينا قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها” (12).


(1) المحدث: الزرقاني |  المصدر: مختصر المقاصد | الصفحة أو الرقم: 184 | خلاصة حكم المحدث: صحيح.

(2) الراوي: علي بن أبي طالب |  المحدث: العراقي |  المصدر: تخريج الإحياء | الصفحة أو الرقم:  2/440 | خلاصة حكم المحدث : في إسناده ضعف.

(3) رواه مسلم.

(4) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.

(5) رواه الترمذي.

(6) رواه أحمد عن أبي هريرة.

(7) أخرجه الطبراني بإسناد حسن، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما. 

(8) رواه النسائي.

(9) رواه مسلم.

(10) سنن أبي داود.

(11) صحيح أبي داود.

(12) رواه البخاري.