مر أكثر من عقد وأنا أكتب “كلمات” بمناسبة ذكرى رحيل رجال التأسيس والتي توافق هذه السنة، الذكرى الأربعين لتأسيس دعوة العدل والإحسان. دعوة كانت أول يوم قضية حملها رجل في قلبه، تقاسم معه حمل الأمانة رجلان:
محمد العلوي السليماني (الصادق الأمين) و أحمد الملاخ (الصاحب الشاهد).
يصعب على المهتم بسيرة الرجال أن يفصل بين الأول والثاني والثالث، كتب الله لهم سيرا ومسارا مشتركا، فألف بين قلوبهم.
كون الرجال الثلاثة نواة صلبة، التحق بهم الحاج #علي_سقراط (الذاكر الحكيم)، ثم رجال ورجال… فأصبحت النواة ذرة ثم جزيئة ثم جسما متماسكا. تماسك مصدره قوة النواة ونور قلوب رجال التأسيس، الذي أشع ومازال على الأجيال اللاحقة بفضل من الله وكرمه.
حسِب بعض المتتبعين أن تلك الكلمات المكتوبة في كل ذكرى وفاء، جمع لحروف مرصعة في قالب يشكل شمعة تنضاف لشموع ما مضى من ذكريات الرجال، وأن كاتب تلك الكلمات لم يستطع التجرد من عباءة الماضي!
وتذوق آخرون مرمى تلك الكلمات التي تذكر بسراج مصدر نور طريق السلوك إلى الله، قلت يوما لوالدي بعد حديثه عن الماضي: “أظن أنه آن الأوان لتتحدث عن المستقبل”، عقّب علي مبتسما: “من لا ماضي له لا مستقبل له، أنظر لتلك البناية العالية التي أمامنا”، ففعلت، ورأى عينيّ مستقرتين على الطوابق العليا، وقال: “اعلم بني، أن ذاك العلو المكتسب من هذا الأساس” ووضع يده على قلبه.
وذكرني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ. حَدَّثَنَا «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ». ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجَتْهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِراً وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ (ثُمَّ أَخَذَ حَصىً فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ) فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ». وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِما لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيّا أَوْ يَهُودِيّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلاَّ فُلاَناً وَفُلاَناً.
أيقنت يومها بالسر المكنون الذي أودعه الحق في قلب الرجل المصحوب، ثم أدركت بعدها حقيقة قوة المشروع، وأنَّبت عقلي على عجزه في فهم النقول، وأن تفهيماته ليست إلا تلبيسا من الشيطان الرجيم وتأويلا منحرفا لما بين السطور، خوفا على عضلة عقلي المترهل من العلم المتجبر المهووس بالأنا المستعلية، ورغبة لقلبي الغافل أن يكتسب لسانا ذاكرا، وتشوفا لنفسي أن ترقى من درك اللوم إلى مقام الاطمئنان، وسعيا بجسدي أن ينصهر في الجسم المحتضن الدافئ وحتى لا يبقى حملا قاصيا، لقمة صائغة بين أنياب الذئاب المفترسة…
من أجل ذلك كله، لن أتجرد من جلباب آبائي، فهم أحبائي، رجال الله في كل مكان وزمان.
بعد كبَر الصبيان ورشد الفتيان وإرادة الرجال، لن يستطيع الأوفياء منهم النسيان، مهما طال الزمن أو قصر.
نعم غيب الموت عنا أجسادهم الطاهرة، فتلكم سنة الله في خلقه، لكن أرواحهم الذاكرة المذكرة دائما حاضرة.
ربما يكتشف معي اليوم قارئ هذه “الكلمات الأخيرة” حقيقة ما يلومني به القائلون، أو ما يتجاهله المتجاهلون، أو ما يخطط له المناوئون…
أقول للجميع: “كلٌّ ميَسّر لما خلِق له”.
يوم ذكراه 12، وجدت كلمة للوالد أحمد الملاخ، رحمه الله، يوصي فيها بوصفه بعد رحيله بـ“الصاحب الشاهد“.
فاعل معرف به (الفاعل) لأمر قذفه الله في قلبه (تحقيق الصحبة) ولفعل أنجزه في صمت (بناء الجماعة)، طمعا في محبة الله تعالى ومرضاته، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد التقي الخفي». فعل خفي، يتجلى اليوم أثره عند الأجيال اللاحقة بعد الرحيل، لتلتئم أواصر الصلة ويتحقق التزاور في الله والتحاب في الله عبر الأزمان، كما أوصى بذلك صاحب الفضل على الوالد والولد: «لا تحبس الصلة برازخ الموت”. إمام عادل شهد في صاحبه (الملاخ) شهادة حق في رسالة خالدة- انظر الرابط في صفحة أحمد الملاخ Maître Ahmed El Mellakh
شهادة تذكر المتذكر والناسي، المحب والمتجاهل، بأن البناء رغم ما بلغ من العلو فهو قائم على أساس، وباب الصحبة الجماعة، قول بليغ وحكمة بالغة يذكرنا بها الشريف الطاهر الصاحب الأمين سيدي محمد العلوي السليماني.
رحم الله الصاحب والمصحوب وبارك في الخلف على حمل الأمانة لتبليغها لأمة رسول الله كاملة غير منقوصة ولا مبثورة.
والموعد الله.
كلمات أخيرة في الذكرى 12 لرحيل الأستاذ أحمد الملاخ رحمه الله
نشر بتاريخ
نشر بتاريخ