|تميز المجلس القطري للدائرة السياسية في دورته الثامنة بزيارة ميمونة للأستاذ عبد السلام ياسين، ألقى خلالها كلمة مختصرة، لكنها كافية شاملة.. هذا بعض ما جاء فيها:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله رب العالمين.
تمضي الأيام وتمضي الليالي ويمضي العمر، ويخلف في هذه الجماعة بعد كل سلف خلف، وكل خلف إن شاء الله يكون أحسن من السلف إلى يوم القيامة، شرط ذلك أن يتمسك الخلف بما آثله السلف، لابد من هذا الاتباع، شرط ذلك أن يتمسك الخلف بما آثله وأسسه السلف، ويقتضي هذا أن نفهم بعض مفاتيح الفهم. أنتم في الدائرة السياسية قد يستفزكم ما يفعله الناس وما تفعله الأحزاب السياسية، وأنتم دائرة سياسية، ما يفعله الناس، ويخوض فيه الناس ينبغي أن لا يلزمنا بمواقف، وينبغي أن لا يلزمنا بصيغ من التنظيم … الأمر تربية قبل كل شيء وتربية بعد كل شيء وتربية مع كل شيء، فالتربية ليس أمرا يرتجل، والصفات التربوية ينبغي أن تظهر وأن تبطن في القيادة هذا شيء لا يرتجل، وشيء لا يأتي بين عشية وضحاها، وإنما يبرز الربانيون بعد تجربة ومن محك البلاء والابتلاء وعلى مر السنين والأعوام، فإذا لم يكن هنالك عنصر ثبات في الجماعة وتنظيمها فيوشك أن تتنازل الجماعة عن مبادئها جيلا بعد جيل، ومجلسا بعد مجلس، منتخبا بعد منتخب، حتى يؤول الأمر إلى مسخ، ولنرجع إلى القرآن الكريم، يقول الله عز وجل: “والسابقون السابقون” و”السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار” ثم “والذين اتبعوهم بإحسان” … بعضنا عندما يقوم ليخطب ينسى اللب، ينسى اللب، ينسى الرسالة التي ينبغي أن يصرفها إلى الناس وأن يقدمها إلى الناس، فينشغل بالألفاظ وبالكلمات وبالتنميق … بينما نحن ينبغي أن نتكلم بكل بساطة وأن نتعرض للأمور الجزئية، وللأمور البسيطة التي يتخطاها بعض الناس ويظنون أنها ثانوية وهي أساسية.
ثم أمضي إلى هذه المختارات التي حرص الأخ عبد الواحد أن تقدم إليكم، وهي تكون حجة عليكم أو حجة لكم، حجة لنا إن شاء الله جميعا لا حجة علينا، وفيها الدروس الكثيرة، تفتحون على الصفحة الثالثة، عنوان: من الدِّرة إلى السيف، حكمة بليغة، من الدِّرة إلى السيف، كان الأمر أمر ذرة في زمن الفاروق رضي الله عنه، ثم أصبح الأمر سيفا بلا ذرة، والآن ينبغي أن ننتقل من السيف إلى الدِّرة، أن نرجع، ينبغي أن ننتقل وهذا هدفنا السامي إن شاء الله- من الملك العاض والجبري إلى الخلافة على منهاج النبوة، وهذا يقتضي زمانا طويلا، إن شاء الله تعالى يقصر لنا المسافة. كلمة قالها عبد الله بن سلام، الذي كان من أخص الصحابة، وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه يهودي أسلم عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة. كان في رأس نخلة يخترف (يجني الثمر)، أي كان فلاحا يهوديا ومع ذلك كان من أحضرهم ومن علمائهم، فسمع الناس يقولون طلع البدر علينا، فنـزل مسرعا، وقالت له خالته خالدة وكانت في أسفل النخلة: ما هذا؟ قال لها: جاء (أي جاء الرجل الذي كان العالم ينتظره سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم). قالت له لو جاء موسى بن عمران ما فرحت مثل هذا الفرح (أو كما قالت)، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أسئلة، المكان لا يتسع لنرجع إليها بالتفصيل، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال والله ما هذا بوجه كذاب فأسلم. هذا رجل في منزلة المهاجرين، وربما تكون هجرته أصعب لأنه خرج من بين بني قومه، ومن نصرة بني قومي، ومن يهوديته، واليهود كانوا في المدينة قلة، والقلة دائما تكون متماسكة في وجه الأغلبية المهيمنة، ترك كل ذلك وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذا كان من أخص الناس. وتمضي السنون تلو السنون، حتى يأتي أعراب، من الأعرابية بمعنى رقة الدين، من الكوفة ومصر، فيحاصرون سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه فيخاطبهم بهذا الكلام العجيب قال: “يا قوم لا تسلوا سيف الله عليكم” (لا تسلو سيف الله عليكم، هم سلوا السيف ليقتلوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان. وفهمها فهما واسعا، فهم من ينظر إلى العواقب، سلوا سيف الله عليهم، عندما سلوا السيف على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم سلوا سيف الله عليهم) فوالله إن سللتموه لا تغمدوه (أغمد عكس سل) ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدِّرة (هذه السنة العمرية) فإن قتلتموه لن يقوم أمركم إلا بالسيف، ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله والله لئن قتلتموه لتتركنها” لتتركن المدينة، فسيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كان الشهيد الثاني من شهداء الخلفاء، فهذه كلمة لسيدنا عبد الله بن سلام ينبغي أن نتدبرها.
ثم لنمضي لنرى كيف كانت الدِّرة تعمل، سيدنا عمر بن الخطاب استعمل الدِّرة والدِّرة كانت قضيبا بلا شك من نخل، طولها ذراع، لم تكن هراوة، ولم تكن عصى غليظة، كالتي يلوح بها الحكام اليوم، حكام اليوم يلوحون بالتهديد والوعيد، هراوة السجن والقتل والسفك، منها ما نسمع في حق هذه الجماعة جماعة العدل والإحسان، وربما استفزوننا لكي يجدو فينا فرصة يغتنمونها، وبلعني أن سياستهم اليوم مع جماعة العدل والإحسان ليست المواجهة ولكن الاستفزاز، حتى نسقط في الفخ، وحتى نعطيهم فرصة كي يعيدوا علينا الكرة بعد الكرة، فلذلك لا نترك لهم هذه الفرصة، لا نُستفز؛ التؤدة من خصال منهاجنا، التؤدة تريث ولين في غير عنف. سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل الدِّرة استعمالات متنوعة، كان يستعملها قاضيا، وحاكما بين الناس، وكان يستعملها مشرفا على الأمور العامة، بوصفه رئيس الدولة، هناك أمثلة نقرأها:
دخل معاوية علىعمر وعليه حلة خضراء فنظر إليها الصحابة فوثب إليه عمر بالدِّرة، وجعل يقول: “الله! الله! يا أمير المؤمنين، فيم؟ فيم؟”. فلم يكلمه حتى رجع، فقالوا: “لم ضربته وما في قومك مثله؟” قال: “ما رأيت وما بلغني إلا خيرا. ولكن رأيته، وأشار بيده (بمعنى كان يتبختر). فأحببت أن أضع منه”.
عن راشد بن سعد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتي بمال فجعل يقسمه بين الناس فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرة وقال: “إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك”.
عن سعيد بن المسيب قال: “خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد فكشفتها الريح، فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة، فذهب سعد يدعو على عمر فناوله الدرة وقال: “اقتص مني! فعفا عن عمر”.
عن موسى بن أنس أن سيرين سأل أنسا المكاتبة وكان كثير المال فأبى، فانطلق إلى عمر فقال: “كاتبه!” فأبى، فضربه عمر بالدرة وتلا عمر: “فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا”.
عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن طليحة الأسدية كانت تحت رويشد الثقفي فطلقها، فنكحت في عدتها، فضربها بالدرة وضرب الذي تزوجها وفرق بينهما. وهو في الموطأ.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى رجلا متماوتا فخفقه بالدرة، قال: “لا تمت علينا ديننا أماتك الله!”.
قيل لعمر: “إن عميرا قد خرب عرب السوس وفعل، فتغيظ عليه، فلما قدم علاه بالدرة وقال: “خربت عرب السوس!” وهو ساكت، فلما دخل عمر بيته استأذن عليه فدخل وأقرأه عهده، فقال عمر: “غفر الله لك”.
سيدنا عمر بن الخطاب كان يبدأ بنفسه، كان يضرب نفسه بالدرة، وتعرفون عندما صعد عمر إلى المنبر وقال كنت أرعى غنم خالتي بقبضتين من تمر، قالوا لما فعلت هذا وشهرت بنفسك، قال لهم: رأيتني أميل إلى الكبرياء، أو كما يقال.
هذا الرجل العظيم يحكي عنه رجل عظيم اسمه البخاري، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: “قال ابن عمر: “يا أبا خالد، إني أرى أمير المؤمنين يلزمك لزوما لا يلزمه أحدا من أصحابك، لا يخرج سفرا إلا وأنت معه، فأخبرني عنه! قال: “لم يكن أولى القوم بالظل، وكان يرحِّل رواحلنا ويرحل رحله وحده، ولقد فرغنا ذات ليلة وقد رحل رحالنا وهو يرحل رحله ويرتجز:
لا يأخذ الليل عليك بالهم
وألْبسَن له القميص واعتم
وكن شريكا نافعا وأسلم
واخْدُمَنِ الأقوام حتى تُخدم
قال لم يكن أولى القوم بالظل، والظل في صحراء العرب عندما يكون الناس مسافرون من الأمور التي يتسابق إليها الناس، ويقدرونها هدية لكبرائهم، فلا يستأثر بالظل (أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه) فأحرى أن يستأثر بأمر آخر.
وكان يرحل رواحلنا، الراحلة هي الناقة أو الجمل الذي يحمل عليه القوم متاعهم، كان يرحلهم قبل أن يرحل نفسه، ولم يكن هذا هينا… كان يشارك بالعمل بيده ولم يكن متكبرا… ولم يبعث الناس لقضاء مصالحه.. وأين هو.. وأين أنت.. يا كبير القوم!؟ كان يرحل رواحلنا، يعينهم علىترحيل رواحلهم، وكان يرحل رحله وحده، وقد فرغنا ذات ليلة وقد رحل رحالنا، يبدأ برحالهم أولا، وهو يرتجز، كان مطمئن البال، لم يكن يفكر بأن فخفخته ورئاسته في الميزان، ولم يكن منقبضا، كان عاديا طبيعيا، وهذا شأن النفوس المطمئنة.
الدرس من هذا أن نكون معشر الإخوان والأخوات في الدائرة السياسية-، بعد أن بدأتم في ممارسة السيادة والرئاسة وتنتظركم محطات أخرى فيها رئاسات أكبر ومراتب أعلى، من الآن على استعداد، فكونوا عباد الله المتواضعين، وفكروا في آخرتكم، إذا لم نتعلم من الآن كيف نطمئن، وكيف نرد أنفسنا إلى حجمها البشري، ففي يوم من الأيام سيصبح كل منا إله يعبد, كما فعل لصدام حسين، الذي يبكي العرب لأنه أهينت كرامة العرب. بإهانة رئيس دولة عربية، أهين العرب كلهم!. نحن نقول إنما أهين جبروت العمية، لا نقول العمية البعثية، لأنه لم يكن بعثيا، ولا غير يعثي، كان طاغوتا. العرب يبكون على هذه الفخفخة، وعلى النخوة العربية… وهو يرتجز، ماذا يقول في الرجز:
لا يأخذ الليل عليك بالهم
وألْبسَن له القميص واعتم
يعني لا ينبغي أن يأتي عليك الليل بالهم، إذا كنت ذا نفس مطمئنة، راجعة إلى ربها، فإنك تنام هنيئا بالليل لأن حياتك كلها هم بالأمة .. تحمل هم الأمة.. وما يؤرق الناس هم أنفسهم الصغيرة .. وحقدهم .. وتفكيرهم في كيفية مواجهة العدو الفلاني .. ومنافسة الخصم الفلاني .. فتؤرقه هذه الهموم. أما النفس المطمئنة، نفس سيدنا عمر رضي الله عنه. جعلنا الله وإياكم من ذوي النفوس المطمئنة .. فهو يخاطب نفسه ويقول:
لا يأخذ الليل عليك بالهم
وألْبسَن له القميص واعتم
البس القميص واعتم، أي يكون عاديا، لا يكترث بأي شيء. حيث إذا كان الإنسان مهموما ومشغولا فقد ينسى حتى عمامته … يكون تائها …
وكن شريكا نافعا وأسلم
واخْدُمَنِ الأقوام حتى تُخدم
شريك نافع يرحل رواحل القوم قبل أن ينصرف إلى رحله ليرحله، وأخدمن من الأقوام حتى تخدم. اخدمن الأقوام هذا ينبغي أن يكون لكم شعارا. حتى تُخدمو في الجنة (ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين) أما إذا كان يخدم الأقوام في الدنيا، ليخدمه الأقوام في الدنيا، فبئس، فبئس ما أسر في نفسه. أظن أن في هذا كفاية .. نسأل الله عز وجل أن يكون لنا ولكم وليا ونصيرا … وأترككم لتتموا جلستكم بارك الله لكم فيها. وبارك عليكم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.