“صل رحمك”؛ حملة إنسانية حركت في قلوبنا مشاعر المحبة والشوق إلى أحبابنا وأقاربنا ممن هم داخل الوطن وخارجه، فتنوعت الاجتهادات والمبادرات والإبداعات، كلنا نعبر عما تحرك به القلب من معاني المودة والرحمة التي نكنها في أعماقنا، ومهما حاولنا فإن الكلمات تعجز عن التعبير عما ينبض به الفؤاد تجاه أرحامنا.
وإن تحدثت عن نفسي فقد حركت هذه الحملة في قلبي شوقا كبيرا لجدتي الغالية، وهي من أهل الآخرة – رحمهم الله جميعا – فأردت أن أحيي الصلة معها؛ لأنني أوقن أن برازخ الموت لا تقطع الصلة بيني وبينها؛ لما كان بيننا من محبة عظيمة.
كانت جدتي امرأة مجاهدة صابرة محتسبة ذاكرة، عشت معها وإخوتي طوال حياتها، كانت أمنا الثانية في غياب أمي، تحرس علينا وترعانا وتوجهنا… رغم أنها كانت صارمة في معظم المواقف إلا أنها كانت صاحبة ومؤنسة في كل الأوقات واللحظات، ما زالت ملامحها وكلماتها وحكمها محفورة في ذاكرتي، كنت أحبها كثيرا وأسعد لخدمتها وتستأمنني على أشياء كثيرة لم تكن تبوح بها حتى لأمي رغم أنها ابنتها المقربة منها. عندما فقدت بصرها كانت تعتمد علي في كل شيء، وكنت ملتزمة معها بمواعيد قارة لا يمكن تضييعها، فكنت سندها يوم الجمعة إلى المسجد، وكنت أحرص على استحمامها بشكل منتظم ولا ترضى ذلك من أحد غيري، ومع فقدها لبصرها ظلت مصرة على صلة الرحم؛ تزور أقارب زوجها، تحسن الظن بكل من تغيب عنها وتبادر بزيارته. كنت أصطحبها وأرافقها برفق رغم المسافة الطويلة؛ لأنها لم تكن تركب أي نوع من وسائل النقل، فكنت أمسك يدها وأمشي بخطوات حثيثة وحذرة كي لا أتعبها، وفي الطريق إلى مبتغاها كانت لا تفتر أسئلتها: أين نحن؟ مع من تتحدثين يا بنيتي؟ ما الذي يباع هنا؟ هل أتعبتك؟ … فكنت أجيبها دائما بما يجبر خاطرها، وكانت تقول لي وهي مبتهجة: “أنت بصري الذي أبصر به”، وتدعو لي دعاء ما زال يبعث في قلبي الفرح والاطمئنان إلى الآن: “نور الله طريقك كما تنورين طريقي”.
كانت جدتي دائما توصيني بأن لا أقابل الإساءة بمثلها، وتقول قولتها المعروفة: “لي تعمل فحالو ما تلقى باش تفوتو عند الله”. إنها حقا مدرسة متحركة في العطاء وإكرام الضيف وقضاء الحوائج. كم كانت تسعد بقدوم أقاربها وأهلها من البادية، وتفرح بما يحمل إليها من سلامهم وأخبارهم، تسأل عن الأعمام والأخوال وعن الجارات التي جمعتها بهن ذكريات طيبة قبل هجرتها إلى المدينة.
تعلمت من جدتي الوفاء وحسن العهد وتقدير الأرحام وحسن الظن بالله والابتسامة في وجه الناس جميعا، والفرح بمن يزورها ويدخل بيتها، كانت دائما تقول: “طلق عبوستك وخبع خبزتك”، إشارة منها إلى أن الضيف يسعد بحسن الاستقبال والبشاشة من أهل الدار، لا بما يحضرون له من خبز أو طعام .
لا يمكن أن أنسى ذكرى جدتي وسأظل وفية لها، فمهما افترقت الأشباح والأجساد فإن الأرواح دائما متصلة، أتذكر جدتي فأدعو لها دائما بأن يبلغها الله أعلى المقامات عنده، وأترحم عليها في كل عمل بر علمتني إياه وكانت سببا فيه. فحقا “لا تقطع برازخ الموت الصلة بيننا وبين أرحامنا من أهل الآخرة”.