أقبلت أيام عيد الفطر مؤذنة برحيل ضيف كريم، عزيز على قلوبنا، حل بنا ضيفا خفيف الظل، باسم الثغر، وها هو يحزم حقائبه ليرحل، لكن نسائمه وأنواره وأخلاقه لن ترحل، ستبقى معنا، ولتملأ بيوتنا وقلوبنا أملا وإشراقا وتفاؤلا بغد أفضل.
شهر رمضان شهر الجود والكرم والعطاء والصدقة، كان رسول الله أجود الناس وكان أكثر جودا في رمضان، وفي الحديث الذي رواه عدي بن حاتم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اتقوا النار ولو بشق تمرة” أخرجه الشيخان. أي أن المسلم عليه أن يجعل بينه وبين النار حاجزا ومانعا يحفظه من الوقوع فيها، وهذا الحاجز هو الإنفاق على المحتاجين والتصدق عليهم والشفقة عليهم ولو بالقليل مما تستصغره النفس كشق تمرة، التصدق بالقليل فيه تربية للنفس وتعويد لها على العطاء والإنفاق، فإن كانت النفس كريمة زادها الصيام جودا وكرما، وإن كانت شحيحة بخيلة، هذبها ورباها وصقلها حتى تتطهر من حظها وأثرتها وطمعها وبخلها وشحها.
رمضان يكبح جماح النفس ويطفئ نار الطمع والجشع ويرفع الإنسان من حضيض الشهوات وسفاسف الأمور إلى معالي الأخلاق وعظائم الأمور، وأعظم به من خلق الإحساس بمعاناة الآخرين من فقراء ومساكين، فيهب الصائم لمواساتهم ومساعدتهم وإكرامهم ومسح دمعتهم، وخصوصا في هذه الأيام العصيبة التي يمر منها بلدنا.
رحل رمضان لكن دروسه وحكمه وأخلاقه يجب ألا ترحل، دربنا على قيام الليل، والوقوف أمام الله، والتضرع بين يديه، فلنبق على هذه العبادة الجليلة، ولنحافظ على ركعات في جوف الليل، نستمطر بها رحمة الله وندق بها باب الكريم ليمن علينا بفتح الباب ويقبلنا في زمرة الأحباب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل” أخرجه مسلم.
دربنا شهر الصيام على قراءة القرآن وتدبره، فلا نهجره بعد رمضان، بل نجعله رفيقنا في كل يوم حفظا وتلاوة وعملا، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “اقرؤوا القرآن فانه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه” أخرجه مسلم. فهو حبل الله المتين، من تمسك به نجا، ومن عمل بأوامره وتجنب نواهيه نال الأجر والثواب واستحق رضى الله تعالى.
دربنا على محاسن الأخلاق، من صبر وحلم ورفق وتؤدة، وهذه أخلاق نبوية يجب أن يتخلق بها المسلم في سلوكه، لكنها يجب أن تتجاوز دائرة الفرد، إلى دائرة أوسع ومساحة أرحب، عليها أن تصبح سلوكا جماعيا يؤطر المجتمع في حركيته وتدافعه ومسيرته نحو التغيير، ليتجنب الناس الوقوع في حبائل العنف والكراهية والتخريب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله” أخرجه البخاري. وعنها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه” أخرجه مسلم.
علمنا رمضان أن نحفظ حقوق الناس وذلك بتجنب شهادة الزور والكذب وقول الباطل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” رواه البخاري. رمضان يطهر أنفسنا من النقائص والرذائل، ويطهر أعمالنا من الموبقات والمعاصي، ويمنعنا من الاعتداء على حقوق الناس، إذ قول الزور ظلم للإنسان، فرمضان يحث على حفظ حقوق الناس ابتداء، فلا يبتدئ الإنسان بظلم أخيه، وإلا فإن صيامه يرد عليه، ولا يحصل له الأجر والثواب، بل لا حظ له من الصيام إلا الجوع والعطش. المسلم لا يظلم الناس، ولا يقبل بالظلم، نفسه الأبية التواقة إلى الحرية والعدالة تأبى أن تكون مع السائمة، يفعل بها وهي لا تفعل، تساق بسياط الطاعة العمياء نحو المجهول. فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا” أخرجه مسلم. فحركية المجتمع إذن عليها أن تسير صعودا في اتجاه مقاومة الظلم السياسي والاجتماعي والحقوقي مسترشدة بأخلاق النبوة كالتؤدة والرفق والتشاور والعفو والرحمة.
بعد رمضان يأتي يوم العيد، لتعم الفرحة قلوب المؤمنين، ويستبشر الصائمون بتوفيق الله تعالى لهم بأداء عبادة الصيام، راجين من المولى تعالى أن يتقبل منهم صيامهم وقيامهم وتلاوتهم للقرآن وصدقاتهم وسائر أعمالهم الصالحة، يوم العيد يسمى في السماء بيوم الجائزة، فعن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: “إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فنادوا: أغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير، ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة” أخرجه الطبراني في الكبير .
وفي يوم العيد شرع الله إخراج الزكاة لتحقيق غايتين؛ الأولى لتطهير المسلم من الرفث واللغو، فيمحوا الله بها ما يرتكبه المسلم من المخالفات والمنهيات أثناء صيامه، فكأن هذه الصدقة جبر لما قد يصيب أخلاق المؤمن من خلل ونقصان ليتسلم جائزته كاملة مكمولة، فالله كريم يكرم عباده بالأجر الجزيل. لكن هذه الفرحة لا تكتمل إلا بتحقيق الغاية الثانية وهي إدخال الفرحة والسرور على فقراء المسلمين بالتوسعة عليهم وإغنائهم عن السؤال في هذا اليوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات” أخرجه أبو داود .
من هنا يظهر أن من مقاصد العيد استكمال الأبعاد الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية التي رسخها شهر رمضان في سلوك المسلمين. وهذه الأبعاد السلوكية يبرهن على صدقيتها بمدى استمرارها في بقية أشهر العام، فرمضان لما بعده، فمن كان يعبد رمضان فإنه قد فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.