يطل علينا اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء والمرأة المغربية لم تندمل جراحُها بَعْدُ من حادثة مفجعة حدثت قبل أيام بالصويرة؛ خمسة عشر امرأة التحقن بركب شهيدات هذا الوطن شهيدات الجوع ولقمة العيش التي أصبحت غولا حقيقيا يخنق نساءنا ويسرق أرواحهن نهارا جهارا.. شهيدات سطرن بدمائهن قصة وطن جريح لم تبدأ آلامه مع شهيدات معبر الذل، معبر باب سبتة، ولم تنته مع مي فتحية التي أحرقت نفسها فأصبحت جرح وطن لن يدمل، وسيليا شابة فقدت حريتها لأنها تغنت يوما بحب الوطن، وصفاء الزوين التي قبل أن يجهض جنينها أجهض معه شعار حقوق المرأة الزائف.. حكايات عنف وظلم وقهر لا يتسع لها قلم هذا المقال ولا يستطيع وصفها علم البيان.
عودة مريرة إلى موضوعنا الذي من أجله كُتبت هذه الأسطر.
مصطلح العنف إن نحن تناولناه من منظور حقوقي صرف بين الرجل والمرأة ظلمنا المرأة وظلمنا معها كل المجتمع لأن حبل قضيتها تفتل فيه عوامل كثيرة بدءا من العامل السياسي ومرورا بالديني فالاجتماعي وانتهاء إلى الاقتصادي، بمعنى أن المرأة تعاني الويلات على جميع الصعد ويمارس عليها العنف بجميع أنواعه. وبما أننا في بيئة مسلمة فلا عنف أشد من عنف الصد عن سبيل الله بعد سلب حق الحياة. هذا السبيل الذي يعلو فيه صوت رغيف الخبز على صوت الأذان. وتقف فيه ظلمات الجهل ودركات الفقر حائلا وحاجزا يعيق مستضعفة المستضعفين من الوصول الآمن إلى دار البقاء من دار الفناء. عقبات هي صنيعة المستكبرين الذين سرقوا خيرات البلاد ونهبوا أرزاق العباد.
وأي نداء يصدح برفع العنف عن المرأة دون رفعه عن الأمة جمعاء هو نداء ميؤوس منه يفتقر إلى أبسط وسائل النجاح، وفي مقدمتها وضع قضية المرأة في إطارها الشمولي والعام كواحدة من أبرز قضايا أمتنا.
من أجل معالجة أي ظاهرة لا بد من الرجوع إلى أصل وجودها، وقضية المرأة جزء لا يتجزأ من هذه القاعدة.
فإذا أخذنا على سبيل المثال العنف الفقهي الذي مورس على النساء في القرون الخوالي فإننا سنجد أن انحطاط المرأة جاء نتيجة لانحطاط المجتمع، والمجتمع انحط بانحطاط حكامه، وانحط حكامه يوم حولوا نظام الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عاض ثم جبري. فالسلطان الذي جعل من المرأة جارية في قصره، وراقصة في حفلاته، ومغنية في سهراته، ساهم في دحض المكانة العلية للمرأة العالمة المجاهدة في زمان النبوة. وبما أن المرأة هي الحلقة الأضعف في السلم المجتمعي فليس غريبا أن تعنف وتظلم ويصدر في حقها العلماء فتاوى بمنعها من الخروج درءا للفتنة عوض فتاوى تنهى السلطان عن ظلمه والمجتمع عن ميله. وهكذا أصبح نصف المجتمع مغيبا حبيس الجدران، وبذلك سيق المجتمع نحو الذكورية حتى جعل المقولات الشعبية المهينة للمرأة المحتقرة لها في مصاف الأحاديث النبوية المقدسة.
نترك فترة الحكم العاض وراءنا ولنحط رحالنا في عصر الاستعمار ولنأخذ على سبيل المثال العنف الثقافي الذي زاد الطين بلة. حالة المرأة وقضيتها في ذلك العصر كانت على صفيح ساخن بعد أن تسللت إلى أذنها نداءات دعاة التحرير الذين وجدوا أرضية خصبة لنشر أفكارهم وشعاراتهم المنادية بالحرية وتحرير المرأة. وفعلا قد أشرع الكم المُهمَل خلف الجدران نوافذه لسماع أصوات المنصفين لقضيته المتهممين لحالته. ولكن مع كامل الأسف لم تتجاوز هذه الشعارات قشور التغيير، تمخض الجبل فولد فأرا، فهذه الدعوات لم تستطِع ملامسة الإحساس بضرورة تحرير العقل قط، وإنما وقفت عاجزة في حدود تحرير شعرها، لم تهدف إلى تحرير إرادة المرأة قط، وإنما إلى تحرير جسدها. فهي لم تكن سوى حملة جوفاء مست القشور دون اللب. على إثرها وجدت المرأة نفسها بين مطرقة الفقه المنحبس وسندان دعاة التحرير.
نشد رحالنا هذه المرة إلى زماننا هذا، زمان وكلاء الاستعمار، وبالضبط إلى حقبة الحكم الجبري، لنسلط الضوء على العنف السياسي والديني والثقافي. فالضوء الساطع من الحضارة الغربية على “المرأة الحرة” جعل النساء يتخذن من المنظمات الداعية للتحرير مظلة يناضلن تحتها، تدعمهن أصوات من كل الدنيا تدعوهن إلى الوقوف في وجه الرجل والمجتمع الذي ظلمها حقا، فما لبثت حتى تبنت كل الشعارات الجوفاء التي جعلت من الرجل عدوا أزليا وجب إسقاطه وكأنه أول الظالمين وآخرهم، حتى ارتبط اسم الرجل بمصطلح العنف ضد المرأة كلما أحيت النساء يومهن الذي سطر يوما عالميا لمناهضة العنف ضد المرأة في 25 نونبر من كل عام. والنتيجة أرض معركة تدور رحاها بين من تشكو المظلومية وبين من هو أيضا ضحية تربية هجينة، وشريك في المعاناة باعتباره فردا من مجتمع متخلف وسط أمة مهزومة يسودها الضعف والهوان تنتظر أن يُفعل بها ولا تفعل. تيار لا يركز إلا على إحصائيات العنف المختزل في عنف الزوج المادي والجسدي والجنسي والقانوني، وإن كنا لا ننكره، وننكر التغافل الذي يطال شهيدات لقمة العيش وشهيدات الحرية وشهيدات الحكرة وأمهات المعتقلين والمتابعات والمظلومات وغيرهن كثير. هذه الحالات إذا ما كيلت في ميزان العنف رجحت من عظم الأحزان.
ولنلق نظرة على البدوية المهانة والمدنية المستعبدة والصبيات المستغلات بأجور بئيسة، ناهيك عن تدحرج المرأة إلى دركات الجهل والأمية، دون أن ننسى ويلات البنات في دور الدعارة. أليس هذا هو الميدان الحقيقي الذي تعنف فيه المرأة أشد تعنيف؟ أو لم ينجم عن الزواج غير الشرعي بين العنف والظلم برعاية النظام المستبد هذا الواقع المر المشوه لحياة كل من المرأة والرجل على حد سواء؟
إن عدل الإسلام وإحسانه يبغض النزاع والعداوة وينشد عالما واحدا يسوده العطاء والرحمة والمودة. وهذا التغيير رهين نظرة شمولية لعلاج كل أدْواء الواقع ومسببات هذا الخراب الاجتماعي.
إن المراة مدعوة إلى الاصطفاف بجانب أخيها الرجل من أجل رفع هذا الحيف والظلم الواقع على أمتها أولا وعليها ثانيا كشرط أساسي للتغيير المنشود..
والرجل أخ المرأة ورفيقها في الآدمية وقسيمها في الكرامة مدعو أيضا إلى الأخذ بيد المرأة كخطوة أولى في طريق التغيير، من أجل صنع حياة خيرة وكريمة في الدنيا تفضي إلى العيش السعيد والرغيد في الآخرة.