تحل بنا ذكرى معجزة الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب المحرم، فنقف أمامها نتلمس الدروس والعظات، امتثالا لقوله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْءَاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب، 21)، لعلنا نهتدي لبلسم ترياق نداوي به أسقام نفوسنا، ومصباح وهاج نستنير به في دياجير واقع أمتنا المتموج بالفتن، مؤتمين بقول الحبيب صلوات الله عليه وسلم: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.
ذكرت حادثة الإسراء والمعراج في سورتي الإسراء والنجم، لتظل قرآنا يتلى بين أيدينا إلى قيام الساعة، كما أنها احتلت أهمية خاصة عند علماء السيرة، واعتبرت حدثا استثنائيا، لما ترمز إليه من دلالات؛ فهي بمثابة مواساة للرسول الكريم بعد الإيذاء الذي تعرض له من كفار قريش، وتأكيدا لمكانة المسجد الأقصى عند المسلمين، وإظهارا للمقام السني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع تكريمه وأمته بفريضة الصلاة.
ألا إن نصر الله قريب
اتفق رواة السيرة على وقوع الإسراء والمعراج قبل الهجرة النبوية بعام بعد وفاة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا خديجة رضي الله عنها وعمه أبو طالب، ففقد صلى الله عليه وسلم بموتهما ركنا شديدا كان يحميه من سفهاء قريش ونكايتهم به حتى سمي بعام الحزن، كما تعرض المسلمون لأشد أنواع العذاب والقهر فطلبوا من رسول الله أن يستنصر لهم، فجاءت معجزة الإسراء والمعراج هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على ثباتهم وتحملهم لأذى المشركين.
وسنة الله ماضية إلى قيام الساعة في اقتران النصر بالصبر واليسر بالعسر والمنحة بالمحنة.
وإذا تأملنا واقع المسلمين اليوم بمعزل عن فقه السيرة النبوية نصاب ولاشك باليأس والإحباط من إمكانية تغير هذا الواقع، لكن اشتداد إيذاء الدعاة والصالحين وقهر المستضعفين من المسلمين لهو المقدمة لبداية نصر قريب بإذن الله تعالى، ولنحن أحوج للاطلاع على الأحاديث النبوية المبشرة لمستقبل الإسلام، بغرض شحذ العزائم ونبذ اليأس، بالموازاة مع معرفة الفقه المنهاجي لتربية الطليعة المؤمنة، القادرة على إعداد القوة لإرساء دعائم الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله بيت مدر [بيوت الحاضرة تبنى بالحجارة واللبِن] ولا وَبَر [خيام البادية من وبر الجمال] إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل. عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفرّ” [1].
وعن ابن قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسُئِل أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلَق. قال: فأخرج منه كتابا. قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولا، أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولا. يعني قسطنطينية [2]. مفهوم الحديث أن رومية، أي روما، تفتح ثانيا.
ويعقب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بعد عرضه لهذه الأحاديث بقوله: “وهذا هو الوحي جاءنا مُوَثقاً موثوقا، فهل يشك في صدقه إلا أهل الغِرّة بالله ورسوله؟ ثم إن فتح العالم للإسلام حتى يدخل الإسلام كل بيت مدر ووبر كما قرأنا في الحديث السابق، وحتى يعم مشارق الأرض ومغاربها، وحتى تفتح روما للإسلام ليس محتوما أن يتم عن طريق الحرب” [3].
من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء، 1). نورد تعليقا لطيفا حول هذه الآية للدكتور يوسف القرضاوي: “أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، المسجد الذي ابتدأ منه الإسراء، والمسجد الذي انتهى إليه الإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أراد الله عز وجل لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، حينما كان الإسراء لم يكن هناك مسجد مشيد، كان هناك مكانًا للمسجد، كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ (الحج، 26). فقوله إلى المسجد الأقصى بشارة بأن المكان سيتحول إلى مسجد، وهو أقصى بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومعنى هذا أن الإسلام سيمتد وسيأخذ هذا المكان الذي تسيطر عليه الإمبراطورية الرومية، كان هذا بشارة للمسلمين أن دينهم سيظهر وأن دولتهم ستتسع، وأن ملكهم سيمتد وسيكون هناك مسجدًا أقصى، وقد كان، دخل المسلمون القدس في عهد عمر ببن الخطاب رضي الله عنه
وهذا هو الوعد الأول الذي ذكره الله تعالى في مستهل سورة الإسراء، أما وعد الآخرة فهو البشارة التي ينتظرها المسلمون إن شاء الله لتحرير بيت المقدس الشريف. ونجد لها سندا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ” [4].
نسال الله النصر لإخواننا في فلسطين ونسأله سبحانه التحرير والخلاص لأوطاننا الإسلامية من نظام عالمي مستكبر ومتحالف أذاق أمتنا أنواع الخسف والهوان والذل.
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
القصد من رحلة الإسراء – كما أوضح الحق سبحانه وتعالى – هو اطلاع حبيبه صلوات ربي عليه وتسليمه على آياته العظيمة، كذلك كان القصد من وراء معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل من أجلّها رفع مقامه الشريف ووصوله لسدرة المنتهى والحضرة القدسية، مقام قال فيه سيدنا جبريل عليه السلام: (إن تمر تخترق وإن أمر أحترق).
ومن حلل الكرامة التي ألبسها الله عز وجل رسوله الكريم في معجزة المعراج أن خصه وأمته بفريضة الصلاة، وخففها رحمة بها من خمسين صلاة إلى خمس، لا ينقص من أجرها شيئا، لأن الحسنة بعشر أمثالها. فاعتبرت الصلاة بذلك المعراج الروحي القلبي للمؤمن في مقامات القرب منه تعالى، فهي معراج الولاية.
فبشرى لنا باتباع رسول هو إمام الرسل وشفيع الورى ونجي الرحمان وخليله. وبشرى لنا بإسلام اختاره الله شريعة للعالمين، يجدده الله لنا على رأس كل مائة سنة، ببعثة مجدد يأتم برسول الله اتباعا واقتداء وتلمذة، شرط الالتزام بالهدي النبوي الشريف، كما جاء في وصية الإمام في ذكرى الإسراء والمعراج: “استقامتنا على الهدي النبوي وسيرنا على المنهاج النبوي هي الكرامةُ يُفيضها الله سبحانه على قلوب العباد الصادقين. وتلك عبرة الذكرى وأسوتها. وتلك نتيجة التعرض في الليالي المباركة المنورة لنفحات الله، حين يغفل الغافلون ويرقد على وسادة الهوى واستطابه الهوان المَهينون” [5].
نسأل الله تعالى أن يعيد علينا هذه الذكرى والأمة الإسلامية ترفل في حلل العزة والكرامة والمنعة. إنه بالإجابة جدير.
[1] رواه أحمد (4/103) (16998)، والطَّبراني (2/58) (1280)، والحاكم (4/477)، والبيهقي (9/181) (19089).
[2] رواه أحمد (2/ 176)، والدارمي (1/ 126)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (47/ 153 /2).. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[3] عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي – تطوان، ص 316.
[4] صحيح مسلم (2922)، رواه سيدنا أبو هريرة.
[5] عبد السلام ياسين، رسالة تذكير، ط 1995/1، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، ص 6 – 7.