رحم الله الأستاذ عبد الهادي بوطالب خادم “الأعتاب الشريفة” في الفكر والسياسة، الذي قال ضمن حديث له في قناة الجزيرة أن الحياة السياسية المغربية ألعوبة سياسية. ويا ليتها كانت على الأقل لعبة سياسية كما هو الحال في بلدانها: لها مقوماتها وشروطها وقواعدها.
ألعوبة هنا بين يدي المخزن التقليدي المتجدد والمتحلي ببنطلون “الحداثة”، دون التخلي عن جلباب “الأصالة”، الماهر في اللعب بالدمقراطية وأدواتها ويستعملها ويستعمل رجالها ومفكريها، تماما كما يلعب بمقدسات الإسلام ومبادئه لمزيد من التسلط والتحكم ويستعمل رجاله.
فتعجب إن شئت من انخراط مفكرين أفذاذ، وعلماء فحول، وشعراء فصحاء، وصوفية ذاكرين، ومؤرخين أكفاء، وكتاب متقنين، وحتى مناضلين صادقين في سلك المخزن، ومن أخذوا مقاعدهم في مركبته والتجديف برغباته ولأهدافه.
هؤلاء العلماء والصوفية والمفكرون والمناضلين أسندوا ظهر موقفهم واختيارهم هذا على أريكة اجتهاد كثير من علماء ومفكري الأمة القدماء، ولم يتجشموا شرف الوقوف على منصة اجتهاد شخصي لزمانهم ولظروفهم، فيقدموا للأمة فكرة أوموقفا أوسلوكا يكون ثمرة علمهم وفكرهم ونضالهم.
ولقد امتحن الله كفاءتهم ومهارتهم وصدقهم أكثر عندما قدر لهم أن يعاصروا عالما ومفكرا وسياسيا مناضلا مجددا قدم لهم الفرصة ومد لهم الجسر ليمروا من ضفة التقليد المريح والتبرير المبيح، إن لم يكن الركون القبيح -فإن النفس لأمارة بالسوء إلاما رحم ربي- إلى ضفة الاجتهاد المفحم والسلوك المقتحم بعيدا عن هوى النفس المتقاعسة…
لله در المتنبي حين قال:إلي كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد
فطعم الموت في أمر صغير
كطعم الموت في أمر عظيمربما وجدت النفس من الحيل الشرعية والتحليلات الفكرية أو الأحوال الصوفية أو الحلول السياسية ستائر تحتجب بها عن أنوار الشرع الحق والفكر المستقيم والحال الصادق والسياسة العادلة.
عاصر هؤلاء بل عاشر بعضهم الأستاذ عبد السلام ياسين، فخبروا صدقه في طلب الحق في سلوكه الروحي والفكري والسياسي والعلمي. ومن صدقه واجتهاده أن سلك بتوفيق الله الطريق الصعبة بهمة عالية طلقت حظوظ النفس، فلم يترك لنفسه الفرصة للبحث عن الرخصة والسهولة في تقليد الأوائل علماء كانوا أو صوفية أو مفكرين أو سياسيين. وكم شهادة عنه سمعتها مباشرة من كثير منهم عن قوة إخلاصه وسمو علمه وشجاعة مواقفه.
وإن أبرز ما ميزه عنهم في مجال السياسة والحكم هو وضع أصبعه على أصل الداء الذي انتشر في جسد الأمة عبر تاريخ المسلمين وهو الاستبداد والتسلط، الذي بدأ من هيمنة الأمويين على الحكم والسياسة في بلاد المسلمين إلى أن أصبحت الحياة السياسة ألعوبة بين يدي الملوك الأمويين والعباسيين والفاطميين والمرينين والسعديين والسلاجقة والمماليك والعشائريين والجمهوريين والعلويين وغيرهم. باستثناء بعض الملوك الذين دفعهم ورعهم وعلمهم بالله ومعرفتهم بنفوسهم واتقائهم لشرورها ولجمهم لأهوائها، إمامهم الخليفة الراشد الخامس سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
استقام توجههم إلى الله فاستقام اجتهادهم ودفعهم إلى سياسة أمر الأمة بالشورى والعدل وقدموا لأنفسهم ما سيجدونه عند الله من خير ورحمة، بما رحموا هذه الأمة وقسموا أرزاقها بالعدل.
انظر كيف أصبح العالم والمفكر والصوفي والسياسي والمناضل بعقله وقلبه وجسده ألعوبة بيد نفسه وهواه حتى جعلته ألعوبة بيد من استخف بالأمة واستبد وتسلط ونهب وأفسد.
وانظر عندما تتنحى النفس وتطمئن كيف تكون الروح مصدر الرأي السديد والموقف الرشيد والسلوك الحميد، عند الناس وعند الله. فعندما سئل الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، عالم السياسة والفكر والعلم الشرعي وعلم التزكية، في الندوة الصحفية التي انعقدت بعد رفع الحصار بسلا سنة 2000 عن مشاريعه بعد رفع الحصار عنه قال: التربية ثم التربية ثم التربية يقصد بها تربية النفس، فجعل منها أصل العلاج ومنطلقه ومساره.
نفس الحاكم تعلقت بالرئاسة وأحبتها وامتزجت بها فأوحت إلى العقل أن يبحث عن جميع التأويلات والحيل والتبريرات والأدوات للحفاظ على العرش، واستقر الاقتناع التام بصواب الرأي والموقف ثم أملى العقل إلى الجوارح أن تقوم بما يلزم من أفعال وخطط ومشاريع تحقق تلك الغاية.
نفس العالم أو المتصوف تعلقت بحظوظ القرب من السلطان أو خافت من بطشه، فأملت على العقل وأدواته العلمية وبحثت عن الحيل الشرعية، أو استعملت التأويلات الغيبية لتكون في خدمة التمكين لحكم الاستبداد ودوامه.
ونفس المفكر والسياسي سارت نفس المسار ورجحت، فتأولت المواقف والآراء استجابة لرغبة أو خوفا من رهبة وبحثوا عن مجالات لإعمال الفكر والشرع والسياسة والنضال دون السقف المسموح به.
ووسط ذلك الحركية السياسية والنضالية والفكرية والعلمية والصوفية الوهمية ينطق الضمير، وصوت الحق الواعظ ينادي وينبه، لكن سرعان ما تطفو حظوظ النفس بتبريرات العقل لطمس نداء الروح. بل تمنحه تخذيرا يسكنه حتى لا يعكر عليها صفو الحياة، وأية حياة، وحتى لا يفسد لها نشوة المتعة بمباهجها وأوهامها.
وكم أشفق على أحدهم عندما يرجع إلى ساعة صفاء يصحو فيها الضمير الحي عند قراءة حكمة حكيم أو تلاوة آية أو حديث أو قرب أجل.
فكم روي عن حكام وعلماء ومفكرين سياسيين كلاما نطقوا به في آخر حياتهم أو قبيل صعود أرواحهم حيث ضعفت النفس وانهارت الأهواء، وانكشفت الأوهام والظنون، وبانت الدنيا على حقيقتها وتمنى ذلك المخلوق أن لو أعطيت له الفرصة لعله يتقي أهواء النفس ويعمل صالحا فيما أوتي من سلطة أو من علم أو من فكر أو من ذكر أو من شعر أو من سياسة أو من نضال لكن ولات حين مناص.