ما أكرم الله تعالى أحدا كما أكرم حبيبه ومصطفاه سيدنا ومولانا محمدا صلوات الله وسلامه عليه. فما فُضّل به لا يُحّد, وماخُصّ به لا يُعدّ. أُعليَ مقامه, وشَرُفت منزلته. أُوتي مالم ُيؤتَ أحد من العالمين.
وكيف لا وهو الحبيب المجتبى, والخليل المصطفى, صلى الله عليه وآله وسلم.
يروي عمر بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله أدرك بي الأجل المرحوم, واختصر لي اختصارا. فنحن السابقون يوم القيامة. وإني قائل قولا غير فخر. إبراهيم خليل الله, وموسى صفي الله, وأنا حبيب الله, ومعي لواء الحمد يوم القيامة, وإن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث. لا يعمهم بسنة, ولا يستأصلهم عدو, ولا يجمعهم على ضلالة.”
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:”إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلوا علي, فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا, ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة”. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُعطيت ما لم يُعطَ أحد من الأنبياء, نُصرت بالرعب, وأُعطيت مفاتيح الأرض, وسُميت أحمد, وجُعل لي التراب طهورا, وجعلت أمتي خير الأمم.” وفي حديث آخر. “أعطيت جوامع الكلم, وأحلت لي الغنائم, وأرسلت إلى الخلق كافة, وختم بي النبيون.”
وعن ثوبان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها, وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوى لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض.(…).” الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس(…).” رواه أحمد برجال الصحيح، والطبراني.
وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت, ثم انصرف إلى المنبر، فقال:”إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن, وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض. وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي, ولكن أخاف عليكم أن تنافسوها.” رواه الشيخان.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة لو شئتُ لسارت معي جبال الذهب. جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام. ويقول لك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا” قال: فكان رسول الله صلى عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول:” آكل كما يأكل العبد, وأجلس كما يجلس العبد.” قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وإسناده حسن.
صحيح أن جميع هذه المنح الإلهية والعطايا الربانية, دليل على عظيم قدر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وكبير شأنه عند الله تعالى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق هذا ومعه غيره, لكن ما توجه إليه همه, وعقد عليه عزمه, واستقرت عليه رغبته أكبر من هذا وذاك بكثير.
عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جلس على المنبر فقال:”عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا, وبين ما عنده، فاختار ما عنده.” فبكى أبو بكر وبكى. فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به. رواه مسلم.
لايأتي في بال أي مؤمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيختار غير الله وغير اللقاء به. لكنه المثال يضربه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والدرس يعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنقتدي ونتأسى به. فلا يعظم في أعيننا شيء أمام لقاء الله تعالى. ويتربى فينا هذا الشوق وهذا الشغف, لا تؤثر فيه زهرة الدنيا, ولا تحركه ولا تزعزعه عن مطلبه الأسمى.
عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى عليه وسلم من جوف الليل، فقال: “يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفرلأهل البقيع. فانطلق معي.” فانطلقت معه. فلما وقف بين أظهرهم قال: “السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس. لو تعلمون ما نجاكم الله منه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها, الآخرة شر من الأولى.” ثم أقبل علي فقال:”يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة, وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل, والجنة.” قلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: “لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة.” ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبضه الله فيه حين أصبح. رواه الهيثمي في مجمع الزوائد بروايتين. وقال: رواه أحمد والطبراني بإسنادين, ورجال أحدهما ثقات. إلا أن الإسناد الأول عن عبيد بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة. والثاني عن عبيد بن جبيرعن أبي مويهبة. ثم انظر الفتح الرباني في شرح المسند ج24,23 ص 285.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح.”إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخير.”
قالت عائشة: فما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخدي, غشي ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف.ثم قال: ” اللهم الرفيق الأعلى.”
قالت عائشة: “إذا لا يختارنا.
قالت عائشة: وعرفت الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله: “إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير.”
قالت عائشة: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “اللهم الرفيق الأعلى.”
وعن عائشة قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل, أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع. فانتزع يده من يدي, ثم قال: “اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى.” قالت: فذهبت أنظر فإذا هو قد قضى. رواه مسلم.
ونختم بحديث أنس الآتي، الذي أريدك أن تقف معي فيه عند هذا المشهد نتأمل هذه الإشارة، لتظل هذه الأخيرة حبل الأمل وصلة الوصل الذين نفترق عليهما. ويبقى المشهد الصورة الجميلة الماثلة أمام أعيننا المستقرة في عمق ذاكرتنا, المستوطنة سويداء قلوبنا.
“عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه. حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة, فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف, ثم تبسم يضحك, فهممنا نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف. وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة, فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم, وأرخى الستر, فتوفي من يومه.”
لعل هذه الابتسامة هي أحسن تعبير أنت واجده من رجل أفنى حياته في تعليم الناس إقامة الوجهة لله. ولعل مشهد وقوفهم في الصلاة هو أجمل هدية يهديها هذا الجمع للرسول الكريم.
كانت ابتسامته هذه آخر ابتسامة له في الدنيا. تهلل بها وجهه الشريف وكانت علامة فرح واطمئنان بمنظر طهارة النفوس المؤمنة, وجمال قيامها بين يدي خالقها. خاشعة خاضعة متواضعة.
وهذا اللقاء بحق يصور أرق لمحات الإيمان وأروع حالات الصفاء. وإن جسد شيئا فإنما يجسد أصدق إحساس, وأطهر تعبير لكل ما صلى المسلمون وحلموا به وصرخوا من أجله وماتوا في سبيله. والكلام هنا سواء كان على اللقاء الدنيوي المتكرر خمس مرات في اليوم, أو اللقاء المنتظر الموعود هناك في الآخرة, لا حرمنا الله منه بمنه وكرمه آمين.