ليلة الأحد 24 جمادى الأولى 1436 هجرية، الموافق ل 15 مارس 2015 ميلادية، بتنا مع ثلة من أبناء جماعة العدل والإحسان. اجتمعنا حرصا على قلوبنا أن تدخلها الآفات، وصونا لأرواحنا أن يصيبها ما يصيب الأرواح الخبيثة من الفتن والمحرقات، وسعيا في عالم الأسباب لنعيش في ذمة الله سبحانه الكريم الوهاب.
اجتمعنا على خير ما تربي عليه الجماعة أبناءها من ذكر لله، وقيام بين يديه، ومناجاة طلبا للزلفى منه، واعتذار للتقصير في جنبه العظيم، ودعاء لكل الأرواح الطاهرة المؤمنة، السابقة واللاحقة، مع الصلاة على مدد الأرواح وفيضها وأميرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. هذه من أصولنا التربوية الكبرى التي نبتغي بها في يومنا وليلتنا تحقيق العبودية لله سبحانه، والعيش في كنف توحيده، والانتصار للمستضعفين من خلقه المحجوبين المبعدين كرها وغفلة عن خالقهم، وما اختار لهم من منهاج سديد قويم حكيم لحياتهم.
بعد صلاة الضحى من يوم الأحد، قصدنا للا خديجة نور الله روحها رغبة زيارتها. ويشهد الله سبحانه، وهو الوكيل الحسيب الرقيب الشهيد على كل شيء، على ما كانت تحمله قلوبنا من معان محمودة لهذه المؤمنة المجاهدة الشامخة. كانت ألستنا تلهج بخصالها ومحامدها وحسناتها في حق كل مؤمن ومؤمنة داخل جماعة العدل والإحسان. انطوت في شخصها الكريم كل المراحل التاريخية لجماعة العدل والإحسان، بل حملت أثقال الدعوة إلى الله قبل الميلاد التنظيمي لجماعتنا المباركة. يكفي الكيس العاقل أن يتخيل العقبات التي اقتحمها المرشد العزيز عبد السلام ياسين طيب الله روحه، عقبات الاستبداد والفساد والظلم والجور والمكر والتربص التي فتحت أبواب السجون والحصار والبهتان والتدليس والتهم الباطلة، يكفي ليدرك نتفا وشذرات من أهوال عاشتها هذه المؤمنة المحسنة الصابرة. يكفي كل ذي لب يعرف كيف قضى المرشد الحبيب عمره، وأفناه في العلم والمعرفة والتبليغ والتعليم ليرى حجم الضغوطات والابتلاءات التي ذاقتها هذه الكريمة الذاكرة. يكفي كل ذي بصر وبصيرة أن يلاحظ تلك الآلاف من الرجال والنساء من كل الأعمار والأمصار المختلفة الذين قصدوا المرشد رحمه الله حين وجدوا فيه العارف بالله، الدال على الله، المجاهد الراسخ الثابت على منهاج الله، والمربي اللين الهين السهل القريب، يكفي هذا ليعلم كيف باعت هذه النبيلة حياتها لله، وفي سبيل دعوته ورسالته، وقبلت شظف العيش وضيقه واضطراباته التي لا تخلو منها بيوت رجالات الدعوة وقاداتها.
دخلنا على للا خديجة رحم الله روحها الكريمة، فرقت قلوبنا عند ظهورها أمامنا. كان وجودها يكفي ليفتح أمام كل واحد منا كتاب العدل والإحسان، على قدر القاعدة التربوية المعلومة: المرء وسابقته، وغناه، وحظه من الله. غمرنا إحساس غريب، يتجاوز المألوف من الأحاسيس، وهي ترحب بنا بسمتها البسيط، وكلامها البسيط، وابتسامتها البسيطة. أخرجتنا من عالم التكلف، ورفعتنا بصمتها إلى صفاء الفطرة، وذكرتنا باعتبارها رمزا كبيرا من رموز الجماعة بالمؤسس والباني والإمام المجدد عبد السلام ياسين رفع الله مقامه.
لقد أفرحتموني بهذه الزيارة!!! الله يجازيكم ويكرمكم!!! مرحبا بكم! مرحبا بكم!) هذه كلماتها الأولى بعد رد التحية. كنت مطأطئ الرأس، لأني كنت أشعر أنني أمام أمة من إيماء الله، أمام سيدة مصونة طاهرة ميمونة مباركة، لم يكن أحد أبر بالمرشد منها، ولا أحلم وأكرم بالمؤمنين والمؤمنات منها.
قلت وأنا أحاول أن أقدر المرأة قدرها، وأشهد شهادة الحق بين يديها: للا خديجة باسمي واسم الحاضرين معي في هذه الزيارة، وبلسان كل أخ وأخت داخل جماعة العدل والإحسان نشكرك. نشكرك للا خديجة على ما بذلت، وأعطيت، واحتضنت، وصبرت، وأطعمت، وسقيت، وربيت. نسأل الله أن يجزيك عن مرشدنا، وأن يجزيك عنا، فلقد كنت لنا بمثابة الأم. إن مرشدنا رحمه الله حجب عنا بعلمه وجهاده وذكره العلماء والفقهاء والوعاظ والخطباء، لكنه لم يحجبك أنت. أنت دائما حاضرة عندنا، ماثلة أمامنا في دعائنا. الكل يدعو لك).
لم يخطر في خلدي أن هذه كلمات وداع لأحد أشرف المؤمنات اللواتي اقتحمن العقبة إلى الله، وقضين العمر جهادا لتكون كلمة الله هي العليا، واستقمن على الأصول والثوابت حتى لقين مولاهن البر الرحيم اللطيف بعباده.
التفت إليها أحد المؤمنين، وسألها بأدب أن تهدي للحاضرين من “أبنائها” نصيحة باعتبارها قضت عمرا مديدا في صحبة المرشد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. فأجابت بسكون ووقار: الصلاة! الصلاة في المسجد، بل في الصف الأول، وذكر الله دائما، والاستعداد للآخرة. لقد كان سيدي عبد السلام دائما يوصي بالآخرة ثم الآخرة. كان يقول لنا لنفترض أنكم تمتعتم بهذه الدنيا، وأخذتم ما تريدون من حظوظها، وماذا بعد؟ إنه الموت! فما قيمة حياة يتبعها موت. عليكم بذكر الله، والعمل لآخرتكم. لقد أعطى الله ما أعطى لمرشدكم رحمه الله في الدنيا، نسأل الله أن يعطيه في الآخرة).
جلسنا ساعة، وتحقق لنا بجوارها، ونحن نصغي لكلماتها القليلة النافذة، ما يرجوه كل مؤمن يجالس وعاء ينبض وينضح بالإيمان، ويتلقى دعاء خاشعا من أمة صالحة احتسبت حياتها لله، وللمجاهدين من عباد الله. امرأة وقفت سندا ودعما ويدا بيضاء بجانب زوجها الذي لم يكن إلا شامة الذاكرين، ومعلم الأجيال، ومربي القلوب، ومنادي الإيمان، الأستاذ المجدد عبد السلام ياسين.
ودعنا للا خديجة وداعين، وداع الخروج من بيتها، ووداع خروجها من الدنيا..
اللهم برحمتك التي كتبتها على نفسك، وعزتك التي رفعت بها ذكر أوليائك، وكرمك الذي عم أركان عرشك أدخل أمتك للا خديجة فيمن كتبت لهم الفوز برضاك ورضوانك، وتقبلها بالقبول الحسن، واجعلها من أهل الحسنى وزيادة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.