خيرُ ما نفتتح به موضوعَنا عن لماذا النصيحة؟ ولماذا مجالسِ النصيحةِ؟ الحديثَ النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” 1.
قال الإمام النووي رحمه الله معلقا على الحديث: “هذا الحديث عظيم الشأن، وعليه مدار الإسلام (…) وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه، بل المدارُ على هذا وحده” 2.
وفي التعريف اللغوي: النصيحة اسم من فعل نصحه ونصح له، والناصح الخالص من العسل وغيرِه. والنُّصح ضد الغش.
نقول: نصح الجوُّ أي صفا، نصحت توبتُه أي خلصت من الارتداد (الرجوع إلى الوراء). ونصح الثوبَ أي أتقن خياطتَه، ونصح الشرابَ أي ارتوى.
التّنصّح: التشبه بالنّصحاء. ونُصَّح: جمع ناصح. وناصَح صاحبَه أي تبادلا النصيحة.
وأما في التعريف الاصطلاحي: فالنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح بفعلِ ما ينفعه أو تركِ ما يضره. يقول الجرجاني رحمه الله: النصيحة هي الدعاءُ إلى ما فيه الصلاح، والنهيُ عما فيه الفساد 3.
ويقول الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له 4.
وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم دينا، فقال “الدين النصيحة” كما في الحديث الذي ذكرناه. وبهذا المعنى فإن النصيحة تجمع معاني الإسلام والإيمان والإحسان. وجعلها أيضا من حق المسلم على المسلم فقال صلى الله عليه وسلم: “حق المسلم على المسلم ستّ، ومنها: إذا استنصحك فانصح له” 5. أي إذا استشارك فأشر عليه.
ومن الأمور التي بايع عليها الصحابةُ رضي اللّه تعالى عنهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم النصح لكل مسلم. فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: “بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصحِ لكل مسلم” 6.
وقال العيني: “قال الخطابي: جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النصيحةَ للمسلمين شرطا في الذي يبايع عليه كالصلاة والزكاة، فلذلك تراه قرنها بهما” 7.
وقد ورد الترغيب في النصيحة في آيات وأحاديث لا تحصى. كلها تدور على أن الأنبياء عليهم السلام كانت مهمتُهم النصحَ لعباد الله.
فنستفيد مما سبق للجواب عن السؤال الأول: لماذا النصيحة؟
– أن النصيحة هي لبُّ الدين وجوهرُه وارتقاء في مدارجه.
– أن النصيحةَ دليلُ حبّ الخير للآخرين وبغضِ الشر لهم.
– أن النصيحة دليلُ الوفاء بعهد المبايعة بالنصح لكل مسلم.
– أن النصيحة هي الإسهام في صلاح الفرد والمجتمع بنشر الفضيلة ومحاصرة الرذيلة.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح لكل مسلم” 8.
أما للجواب عن السؤال الثاني: لماذا مجالس النصيحة؟
فلأن مجالسَ النصيحة هي المكان المناسب لممارسة النصيحة على حقيقتها كاملة، والتماس جميع المعاني التي تعبر عنها عمليا. فمنها إلى جانب ما ذكرناه سابقا أنها:
– تُحقق الصحبة للإمام رحمه الله بالنيابة.
– تحقق للمداوم على حضورها الصفاء القلبي والروحي وانشراح صدره.
– تحقق المحبة والأخوة الإيمانيتين.
– تحقق التوبة الخالصة لله تعالى بالاجتماع والانجماع عليه سبحانه وتعالى.
– تحقق التشرب القلبي للمعاني الإيمانية بالصحبة والجماعة والتّجالس والتلمذة والمذاكرة.
– تحقق معاني إتقان العمل والإخلاص فيه وتطويره والإبداع فيه.
– تحقق التناصح والتباذل والتواصل والتصافي بين المؤمنين.
وقد دأبت جماعة العدل والإحسان على مجالس النصيحة بفضل من الله وبتوفيق منه سبحانه منذ وقت طويل لما في هذه المجالس من خير وبركة ونور، ومن أرزاق معنوية ومادية.
دائما نسمع من يتحدث عن النصيحة أنها نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا جزء من النصيحة وليس النصيحةَ كلها. النصيحة الكاملة كما يعبر عنها الإمام رحمه الله هي التي تجمع بين الصفاء القلبي، وإتقان العمل، والإخلاص في التوبة، والاجتماع والانجماع على الله تعالى، وتبادل المحبة والنصح والطاعة بين المؤمنين. فكل هذه المعاني التي تعبر عنها النصيحة لغويا واصطلاحيا لا يمكن أن تتحقق إلا في مثل هذه المجالس الإيمانية والإحسانية.
فإذا كانت مجالس بهذه المكانة وبهذه الأهمية فإنه لابد من أن نعظمها ونعظم من يحضرها، ونعظم برنامجها، وذلك بالإعداد لها قبل الحضور معنويا وماديا، نية وهيئة وعلما. واستحضار الآداب اللازمة أثناء الحضور جلوسا ومشاركة وتفاعلا وخدمة ودعاء ومحبة لطلب وجه الله تعالى والتعرض لما يتفضل الله به على روادها من أرزاق معنوية ومادية.
والمجلس لما بعده، فهو لتثبيت المعاني الإيمانية في القلوب والأرواح قصد ثبات الأقدام في ساحات الدعوة والتواصل، وميادين الحركة والجهاد.
أختم هذه الكلمة بقولة للأستاذ منير ركراكي حفظه الله وبارك فيه يقول: “إنه (أي مجلس النصيحة) مجلس ذكر ومذاكرة وفتح رباني، مجلس علم وحلم، مجلس تلاوة ومدارسة. تحفّ أهلَه الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وتَنزل عليهم السكينة، ويَذكرهم اللهُ فيمن عنده…”.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في هذه المجالس، وأن يكثر من روادها، وأن يديم علينا فضلها ونعمها وبركتها. آمين.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.