عندما يصاب إنسان ما بِوَرَمٍ ما أو تصاب جماعة ما بوباء ما، ينكب المختصون على البحث عن الأسباب المباشرة لهذا الورم أو ذاك الوباء. أولا، من أجل فهم آليات اشتغاله، وثانيا، من أجل إيجاد الدواء المناسب للقضاء عليه، وثالثا، لأخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي تكراره وحدوثه. وهذه الخطوات المنهجية، كما تنطبق على الطبيعة، فهي تنسحب أيضا على الاجتماع البشري. ذلك، أن السطو على أرض شعب ما، وشن حرب على سكانه الأصليين هو مماثل تمام التماثل مع سطو خلايا سرطانية على جسم ما، وشنها حربا على خلاياه الأصلية والاستحواذ على مواقعها إلى حد إضعاف مناعته واستسلامه، في غزو شامل وكامل من الورم لهذا الجسم، ومن ثم توديع ملامحه وهيئته وصفته السابقة وحلول صورة جديدة لا يتعرف عليها حتى صاحبها المريض، بله أن يتعرف عليها غيره من الناس.
إنها نفس الحالة التي انطبقت على الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وهي الحالة نفسها التي تجري على الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولعل التوقف عند هذه المماثلة، والسعي إلى إجراء مقارنة بين الحالتين والتاريخين، هما الكفيلان بجعلنا ندرك ونستوعب ونجيب عن الأسئلة الكبيرة من قبيل:
- لماذا تدافع الولايات المتحدة الأمريكية عن الكيان الصهيوني بلا هوادة؟
- لماذا تتشبث الولايات المتحدة الأمريكية حتى النخاع بضرب كل المواثيق والعهود الدولية من أجل الكيان الصهيوني؟
- لماذا تتحدى الولايات المتحدة الأمريكية كل المؤسسات الدولية وتعمل إما على تعطيل وظيفتها عبر الفيتو الأمريكي، كما فعلت مع قرار مجلس الأمن المتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، أو تسفيه قراراتها كما تفعل الآن مع قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي باعتقال النتن ياهو وغالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب؟
- لماذا تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية القائمة سياساتها على الفلسفة البراغماتية التي وضع أسسها كل من جيريمي بنتام وويليام جيمس، كل العواقب الوخيمة التي قد تُؤْذِي مصالحها الاقتصادية وتحرمها صفة الائتمان على قيم وقوانين النظام الدولي، من أجل الكيان الصهيوني؟
- لماذا سكت مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكيين، وصمتت معهما المحكمة الفدرالية العليا، إزاء تعنيف واعتقال طلاب كبريات الجامعات والمعاهد الأمريكية، ضاربين عرض الحائط أهم قيمة تتبجح بها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتبر أُسَّ الدستور الأمريكي ألا وهي قيمة الحرية، وعلى رأسها حرية التعبير، لا لشيء إلا لكون هذه النخبة التي يُفترَض أن تكون مستقبلا في مراكز القرار، وقفت داعمة للشعب الفلسطيني في غزة، وطالبت بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني؟
إن كل من خَبَرَ المجتمع الأمريكي سيعرف جيدا حجم تقديس قيمة الحرية عند الإنسان الأمريكي، وسيدرك في الآن ذاته، حجم الصدمة الكبيرة التي عاشها الأمريكيون وهم يرون نخبة النخبة من الطلاب وهي تُضرَب، وتُسحَل، وتُعتقَل، وتُهدَّد في مستقبلها بسبب رفضها لمواقف بلادها الداعمة لكيان يُنَفِّذُ جرائم حرب، ويقوم بإبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني. - لماذا كل هذا التماهي مع الكيان الصهيوني رغم ما أضحى ينجم عنه من عواقب وخيمة على المدى القصير والمتوسط، وأقَلُّه العزلة الدولية التي غذت الولايات المتحدة الأمريكية تدخل فيها بمواقفها الناشزة التي تسير عكس بوصلة الأمن والاستقرار العالميين؟
للإجابة عن كل هذه الأسئلة، نَجْزِمُ منذ البداية أن التحليلات السياسية والاقتصادية وحدها غير قادرة على النفاذ إلى الأسباب الحقيقية وراء تماهي كل الإدارات الحكومية الأمريكية تاريخيا مع الكيان الصهيوني. ذلك، أن السياسة والاقتصاد يقتضيان بكل براغماتية من جهة، حساب المصالح على كل المَدَيات القصيرة والمتوسطة والبعيدة، كما يستوجبان من جهة أخرى حساب العواقب على مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية وأحقيتها في قيادة العالم، وائتمانها على النظام الدولي وقيمه الكوكبية.
ولأن السياسة والاقتصاد لا يَفِيَان بالتشخيص الدقيق والعميق لورم الإِحْلاَلِ الصهيوني في فلسطين، اللهم قدرتهما على تفسير أعراض هذا التماهي في قبول هذا الإحلال (إحلال بدل احتلال لأن المحتل سرعان ما يترك الأرض أما هؤلاء أحلوا في الأرض ولا نية لهم في تركها)، سنكون مضطرين إلى استدعاء التاريخ من جهة واستدعاء المنهج المقارن من جهة أخرى.
إن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، بدفاعها المستميت عن نجاح، وتوسع، وبقاء الكيان الصهيوني، لا تقوم في العمق إلا بالدفاع عن مشروعها الإحلالي الذي تم منذ أزيد من مائتي سنة على أرض أمريكا التي شهدت إبادة سكانها الأصليين من قِبَلِ الإنسان البروتستانتي الأبيض، الذي باركت التوراة قدومه وتأسيسه لمملكة الرب، تحت شعارات من قَبِيل:
- أولوية شعب الله المختار على شعب الله غير المختار!
- واليد الخفية la main invisible التي ستحقق المصلحة العامة للبروستانتية الليبرالية، إذا ما سعى كل بروتستانتي ليبرالي إلى تحقيق مصالحه الأنانية، تماما كما أكد ذلك آدم سميث وسار على دربه كينز وحواريوه.
- ثم اعتبار كل الشعوب مجرد حيوانات بشرية أو خدم وعبيد باسم العهد القديم والعهد الجديد الذي فسره مارتن لوثر كينغ على هذا النحو.
إننا إذن، أمام تجربتين متماثلتين؛ واحدة وقعت على أراضي أمريكا الشمالية في زمن كان فيه العالم متباعدا ووسائل الإعلام مفقودة، ما حرم سكان العالم من متابعة أكبر إبادة جماعية عرفها تاريخ البشرية. ثم تجربة صهيونية أخذت المشعل من الاحتلال البريطاني منذ سنة 1948 إلى الآن، وتمت على الأراضي الفلسطينية في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وانتشرت فيه وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى حد إمكانية متابعة ومشاهدة ما يجري من إبادات وجرائم حرب على المباشر عبر شاشات التلفاز الكبيرة أو عبر شاشات الهاتف الصغيرة.
من هنا فقط، يمكننا فهم السلوك الأمريكي المتماهي مع الكيان الصهيوني؛ ذلك أن أي نجاح للشعب الفلسطيني في التحرر واستعادة أرضه، وإنهاء الوجود الصهيوني، سيحيي فكرة المطالبة باسترجاع الأرض من لدن السكان الأصليين لأمريكا الشمالية (الهنود الحمر).
إن ما يجهله العديد من الناس في العالم اليوم، أن هناك 325 محمية “بشرية” في الولايات المتحدة الأمريكية يسكنها فقط الهنود الحمر (السكان الأصليون)، وأن هؤلاء لا يزالون يحافظون على أصالتهم وعدم اختلاطهم بغيرهم، كما لا يزالون يحافظون على قوانين خاصة بهم، والأخطر من ذلك أن هناك معاهدات بين السكان الأصليين والحكومة الفدرالية تضمن وجودهم وتضمن حقوقهم في امتلاك الأرض وحفظ الخصوصية والحدود.
في هذا السياق، نُذَكِّر أن كل المحميات “البشرية” 325 التي يقيم عليها السكان الأصليون في الولايات المتحدة الأمريكية، تقع غرب نهر الميسيسيبي على الأراضي الشاسعة المفتوحة، بعيدا عن الولايات الكبرى، ومعظم سكان هذه المحميات “البشرية” يعيشون أوضاعا اجتماعية واقتصادية أحط بكثير من دول العالم الثالث، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا قنوات صرف صحي في العديد من هذه المحميات “البشرية”، ناهيك أن نسبة البطالة فيها تناهز 80٪. علاوة على ذلك فمعظم هذه المحميات “البشرية” تشتكي من عدم التزام الحكومة الفدرالية المركزية ببنود المعاهدات الموقعة مع السكان الأصليين. فبالرغم من صدور أحكام لصالح السكان الأصليين من قِبَلِ المحكمة الفدرالية الأمريكية العليا إلا أنها تُهمَل عنوة، ولا تعيرها السلطات الفدرالية أي اهتمام، لأن الغرض من وراء ذلك هو دفع هؤلاء السكان الأصليين إلى ترك أراضيهم ومجتمعهم والذوبان في المنظومة الرسمية إن هم أرادوا التمتع بحقوقهم كباقي الأمريكيين من شذاذ الآفاق.
على ضوء هذه المعطيات يمكننا فهم لماذا تنحو الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني الأمور التالية:
- القبول بإبادة الشعب الفلسطيني، لأن رفضها لهذا الفعل فيه إدانة ضمنية للإبادة التي قام بها البروتستانتي الأبيض في حق الهنود الحمر.
- القبول بتجويع الشعب الفلسطيني، وهدم البيوت، وتدمير المستشفيات والمدارس، واستهداف الآلة الإعلامية والمنظمات الإنسانية، كل ذلك من أجل دفع السكان إلى الهجرة والبحث عن أوضاع حياتية أكثر أمنا واستقرارا تلبي الحاجيات والضروريات. وهي نفس السياسة التي نجحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية حتى قلصت نسبة السكان الأصليين إلى 2٪ وحولت السكان الأصليين إلى أقلية من الأقليات. على ذلك، فهي تشجع الكيان الصهيوني على نهج نفس السياسات القمعية.
- القبول بعربدة الكيان في وجه المنظمات والمؤسسات والمحاكم الدولية وتسفيه قراراتها وعدم الاكتراث بها، تماما كما تفعل الولايات المتحدة سواء مع القضايا المتعلقة بها خارجيا مع الدول أو مع القضايا التي تحكم فيها المحكمة العليا لصالح السكان الأصليين. بالتالي فإن قبول العربدة الصهيونية هو في عمقه تعزيز لسلوك العربدة الأمريكي، وهذا ما يفسر الخروج عن الإجماع في مجلس الأمن الدولي باستعمال الفيتو، ورفض مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في حق النتن ياهو وغالانت.
وخلاصة القول، إن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة إلى إفشال المشروع التحرري الفلسطيني بكل ما أوتيت من إمكانيات لضرب شعبين بحجر واحد، من جهة، إرغام الشعب الفلسطيني على القبول بالأمر الواقع، واختيار الهجرة الجماعية أو الذوبان في الدولة اليهودية؛ ومن جهة أخرى، تيئيس الهنود الحمر في محمياتهم البشرية، وإطفاء آخر بصيص أمل كانوا يتطلعون إليه لإحياء ما يسمونه “قسم توكالا” الذي يقسم به كل هندي من الهنود الحمر على الدفاع عن حوزة أرضه وأرض أجداده حتى الموت. لذلك، تجد الولايات المتحدة الأمريكية تحارب كل فكرة تدعو إلى التحرر عبر استرجاع الأرض، وتناهضها في كل المحافل الدولية حتى لا تنتقل شرارتها إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية سيما وأن كل شروط انبثاق حركة تحررية للسكان الأصليين متوفرة. كل هذه العوامل مشتركة تجعل فشل الإحلال الصهيوني في فلسطين، يهدد الاتحاد الفدرالي الأمريكي، ويبعث جذوة المطالبة بالاستقلال واسترجاع الأراضي من قِبَلِ الهنود الحمر الذين يعيشون حالة كمون في 325 محمية ويتابعون بتفاعل ما يقع في فلسطين ويراهنون على نجاحه لعله يكون الرافعة والدافع والمحفز نحو المطالبة بوطن مستقل للهنود الحمر ينعمون فيه بالحقوق الكاملة غير منقوصة كما هو حالهم اليوم. ما يعني أن معركة طوفان الأقصى التحررية اليوم، وإن كانت تجري في الشرق الأوسط فإن صدى زلزالها سيصل كل أرض يعاني سكانها من الظلم التاريخي والاستبداد السياسي والفساد الأخلاقي، وهو ما يفسر من جهة التفاف أحرار العالم حول القضية الفلسطينية، ويكشف من جهة أخرى أسباب وقوف قوى الاستكبار العالمي إلى جانب الكيان الصهيوني.
على ذلك، فإن معركة طوفان الأقصى وضعت العالم أمام مفترق الطرق؛ إما انتصار معسكر الحرب والإبادة والاحلال واستمرار البشرية تحت نير الصهيونية العالمية الإمبريالية، وإما انتصار المقاومة وتحرير الأرض والشعب الفلسطينيين، ومن ثم تحرير كل العالم من ربقة الصهيونية العالمية، وهذا هو الذي تلوح تباشيره في الأفق القريب والمتوسط، حيث يتوجب أولا أن تعي الشعوب طبيعة المعركة، وحجم المعركة، وأبعاد اامعركة، حتى توفر الدعم المطلوب، والجهد المطلوب، والإرادة القوية.