إن هذا العنوان يبدو غير طبيعي لكون التضامن أمر عادي في سلوك المغاربة في إطار التفاعل مع أم القضايا؛ القضية الفلسطينية، والذي كان يعرف تفاعل كل النخب والقطاعات، لكنه عنوان عادي إذا تم استحضار الظروف العالمية التي صاحبت عملية طوفان الأقصى وردود فعل مجموعة من الدول الغربية والتي كانت عادة تخفيها، في ظل بروباغندا إعلامية كبيرة وصلت وضللت الجميع بكون المقاومة التي تبحث عن حق شعبها في تقرير مصيره هي المعتدي وأن دولة الاحتلال هي الضحية.
إن عملية طوفان الأقصى والتي انطلقت بتاريخ 7 أكتوبر الجاري صباحا من طرف كتائب القسام التابعة لحركة حماس، جاءت في إطار حركة زمانية ومكانية مدروسة تدخل ضمن خط المقاومة والتحرير ضد المحتل الذي يقوم بحصار قطاع غزة منذ 18 سنة برا وبحرا وجوا، في أطول وأبشع حصار عرفه التاريخ البشري والذي لم يكن له مثيل نهائيا، وذلك في رقعة جغرافية لا تتعدى 360 كيلومترا مربعا بمجموع ساكنة تتعدى المليونين والنصف وتفتقد لأدنى شروط الحياة البسيطة في أكبر كثافة سكانية في العالم …
ورغم شدة الحصار فإن سلطات الاحتلال كانت تعمل على شن حروب بالطائرات المتطورة والقذائف المدمرة على القطاع المنهك، والتي تخلف عشرات الشهداء والجرحى والمعطوبين بالإضافة إلى الخسائر المادية الجسيمة، واستهداف قادة الحركات المقاومة بدون سابق إنذار، منها اغتيال الشيخ أحمد ياسين الذي كان يؤدي صلاة الفجر على كرسيه المتحرك، ومن بعده تم اغتيال القائد عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم الكثير من الاستهدافات التي تتولى ضرب أهداف مدنية ورموز مدنية…
ورغم كل هذا فإن الاحتلال كان يرى في قطاع غزة ذلك الخطر المحدق به دائما، مما حدا به إلى التفكير في استعادة القطاع؛ ولكن ليس ضمن شروط احتلاله ضمن حرب سنة 1967 بل ضمن شروط أخرى كفيلة بأن تكون غزة له خالصة بلا مخاطر، وهو ما جعله يعقد ويوافق على صفقة القرن في عهد ترامب سنة 2017 والتي كانت نسخة مطابقة للأصل لخطط سبق طرحها، لنا عودة إليها في مناسبات مقبلة على وجه التفصيل ..
ولأن المقاومة جسم متحرك محتك بالميدان، ويعرف تحركات الطرف الآخر ومراميه، فهو كان يسعى بالوسائل المتاحة لديه الدفاع عن نفسه لتقويض خطط الاحتلال التوسعية السرية والمعلنة، فعمل على تقوية الجانب العسكري والإداري للقطاع الغزاوي فيما يشبه حكما ذاتيا يحاصره الكيان الصهيوني في جميع الاتجاهات، وتحاصره دولة مصر من الجنوب والتي تنفتح معه عبر معبر رفح الذي يقتصر على الحالات الإنسانية فقط .
في ظل هذا الوضع غير العادي للقطاع وللقضية الفلسطينية التي تعيش وضعا استثنائيا غريبا، ذلك أن الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات، وجزء ثان يعيش في الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية، والجزء الثالث يعيش في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، والجزء الرابع يعيش في قطاع غزة الذي تسيره حماس. وقد كان الكيان الصهيوني يعتقد أنه أغلق ملف اللاجئين الفلسطينيين نهائيا وأن ملف فلسطنيي الشتات مقفل أو على الأقل لا يشكل عليه أي ضغط، كما أنه مرتاح من الضفة الغربية التي تخضع للسلطة الفلسطينية بوصاية من الاحتلال الصهيوني الذي يراقب الأنفاس ويتحكم في كل شيء تم إغراقها في القروض والمساعدات وإضفاء نوع من العيش الذي يوحي بالرفاه وأحسن نظريا من قطاع غزة، وهو ما يؤجل مطالبة سلطته وساكنته بحل الدولتين الموعود بهما، فإنه في عملية سيف القدس سنة 2021 ستنصدم دولة الكيان الصهيوني بأن ساكنة الشتات تفاعلت مع العملية بشكل غير مسبوق، وستنصدم أكثر بردة فعل ساكنة أراضي 1948 التي شاركت في الانتفاضة، وأثبت أبناء أراضي 1948 أنهم لم يفقدوا هويتهم الفلسطينية، وأنهم لم يصبحوا مواطنين إسرائيليين كما كانت تمني نفسها دولة الاحتلال بعد أكثر من 70 سنة من الاحتلال وتسويق مسمى الدولة الديمقراطية الذي تقوم على أساس المواطنة ودون اعتبار آخر، وهو ما جعلها تفكر ألف مرة في التخلص من قطاع غزة المقاومة أو على الأقل من الروح التي تسكنه والتي تبث روح المقاومة من جديد في الشعب الفلسطيني ويذكره بالهوية الفلسطينية عبر تجريده من السلاح …
في هذا السياق الذي يحكم تفكير الكيان كان شعور المقاومة هو السعي بأن تحمي نفسها وأن توفر للشعب الفلسطيني ظروف عيش تليق به عبر حرب التحرير التي تفرضها دروس التاريخ والجغرافيا كحق معترف به دوليا وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها.
إن سياسة نتنياهو وعلى ضوء صفقة القرن وعلى ضوء خطط سرية وأخرى معلنة اتجهت نحو التطبيع مع العرب والمسلمين من أجل أن تضمن في أقل تقدير حيادهم في القضية الفلسطينية إن لم يكن الدعم والمساعدة لها في حروبها المستقبلية ضد غزة أو حزب الله أو غيرهما، وبعد التطبيع مع العرب ستعمل على تصفية قطاع غزة إن لم يكن من التخلص من جميع الساكنة عبر الترحيل والتهجير فعلى الأقل أن تتخلص من الفصائل المسلحة فيه، وهو ما يضمن قيام دولة فلسطينية نظريا بشكل رمزي منزوعة السلاح وبدون سيادة ويعمل سكانها عبيدا في الفلاحة والصناعة الإسرائيلية ذات الاقتصاد القوي .
في هذا السياق الشديد التناقض والتفارق، جاءت عملية طوفان الأقصى كتعبير مقاوم ضد ما يحاك سرا وعلنا ضد القضية الفلسطينية والتي يراد إقبارها إلى الأبد، وهو ما جعلها تتميز عن سابقاتها من أعمال التشابك مع العدو الصهيوني، وشكلت صدمة للكيان الصهيوني وللدول الغربية المتحالفة معه، فكان ردة فعل هذه الدول عنيفة، وسنقتصر على الشق الإعلامي والقانوني .
فقد سجلت عملية “طوفان الأقصى” عشرات القتلى والأسرى من ذوي الجنسية المزدوجة، إذ أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول عن عشرات القتلى والمفقودين من المستوطنين الذين يحملون جنسيات أجنبية، وهو ما أدى إلى تصدير رواية بأن المقاومة الفلسطينيّة تعاديهم وتنحاز بشدة للرواية الصهيونية التي تتحكم في وسائل ووسائط الإعلام العالمية وهو ما جعل مجموعة من تلك الدول تتخذ حزمة إجراءات لم تكن معتمدة من قبل .
وهكذا نجد حكومات أوروبية قد اتخذت مجموعة خطوات لتقييد حركة التضامن الدولية مع القضية الفلسطينية، من خلال تشريعات برلمانية وقانونية وإجراءات مختلفة لزجر كل فعل تضامني مع القضية الفلسطينية. ولعل إعلان وزيرة الداخلية البريطانية عن تجريم رفع العلم الفلسطيني والهتاف لفلسطين مثال واضح على مدى انحياز هذه الحكومات للكيان الصهيوني، تحت طائلة التهديد بتوقيع عقوبات ومتابعات قضائية تتضمن مجموعة من الاتهامات كـ”معاداة السامية” و”الإشادة أو مناصرة الإرهاب” وغيرها من التهم الجاهزة.
وهكذا سنت الحكومة الألمانية، التي يبدو أنها تصهينت أكثر من الصهاينة أنفسهم، منذ “سيف القدس” مجموعة قوانين تضمن إجراءات أساسها وجوهرها حظر المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني وقمع كل فعل احتجاجي مناصر للقضية الفلسطينية، تجلى ذلك في منع مظاهرات في ذكرى النكبة عام 2022 وفي حظر فعالية يوم الأسير في 17 أبريل 2023 بحجّة “معاداة السامية”، كما فرضت الحظر على الناشط “مصعب أبو عطا” لمنعه من تنظيم فعاليات مناصرة لفلسطين.
كما منعت فرنسا فعاليات مساندة للقضية الفلسطينية في باريس، خلال معركة سيف القدس، وتحديدا في ذكرى النكبة 15 مايو، واعتقلت الشرطة الفرنسية في خطوة تنافي المبادئ التاريخية التي تأسست عليها الجمهورية الفرنسية منذ إعلان الثورة الفرنسية سنة 1789م برتراند هايلبرون، رئيس جمعية التضامن الفرنسي مع فلسطين. كما أعلن ماكرون عن نية فرنسا إرسال بارجتين حربيتين قبالة شواطئ فلسطين وتقديم كل الدعم الذي تحتاجه دولة “الكيان الصهيوني” في الأزمة الحالية، بالإضافة إلى إضاءة برج “إيفل” بعلم دولة الاحتلال، واتخاذ مجموعة إجراءات في حق لاعبين عرب أو مسلمين أعلنوا تضامنهم مع فلسطين… ورغم كل الإجراءات المتخذة فقد تظاهر آلاف المؤيدين لـلقضية الفلسطينية تحت طائلة التفريق بالعنف أو الاعتقال، في حين حظيت المظاهرات المساندة للكيان الصهيوني بحراسة أمنية بالغة لحمايتها .
كل هذا يأتي في إطار شيطنة أعمال المقاومة من طرف دولة الكيان الصهيوني وأخطبوطها العالمي وحلفائها التاريخيين، وفي إطار تجريم المقاومة الفلسطينيّة وتشنيعها وإظهارها في مظهر إجرامي، عبر اختلاق الأكاذيب حول سلوك المقاومة مع الأسرى الصهاينة في مستوطنات “غلاف غزة”. بل وصل الأمر بالرئيس الأميركي بايدن تشبيه حركة “حماس” بـ”داعش” عندما نعتهم بقاطعي رؤوس الأطفال، والعمل على تزوير هدف المقاومة بالتخلص من ظلم الاحتلال الصهيوني عبر قتل “اليهود” لمجرد كونهم يهودا في إطار معاداة السامية، بغية قلب الحقائق أمام الرأي العام العالمي وتأليبه على المقاومة الفلسطينيّة وإضعاف حركة التضامن مع فلسطين.
وفي الأخير تظهر أهمية التضامن العالمي مع فلسطين لما يترتب عليه من نتائج؛ على أقل تقدير كسر التطويق الإعلامي الذي يفرضه الكيان الصهيوني وحلفاؤه على القضية الفلسطينية، وفضح جرائم الاحتلال الصهيوني في حق هذا الشعب، وتكريس نبذ دولة الاحتلال، وخلق بيئة غير معادية تعترف بالرواية الفلسطينيّة المضادة لرواية الكيان الصهيوني، والتي من أبرز مطالبها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.