في كل بيت مسلم عريق، حيث تجتمع الأرواح قبل الأجساد، يكون رمضان منسابا بين الجدران كما ينساب النور من بين أغصان الشجر. لا يكون الأب مصدر الأوامر فحسب، بل قدوة بحضوره، الصارم الحنون. ولا تكون الأم قابعة بين الأواني والطبخات، بل لها توازن بين مسؤولياتها المنزلية وعباداتها. يعيشان رمضان بكل جوارحهما، فيغرساه في قلوب أبنائهما دون أن يقصدا.
حينما يقترب الفجر، يوقظ الأب أبناءه بلطف، يضع يده على رؤوسهم بحنو، ويتمتم بالدعاء، فيكون الاستيقاظ للسحور ليس مجرد عادة، بل طقسًا من الحب، يملؤه دفء اللمة والاجتماع حول المائدة التي تشاركا الأب والأم في إعدادها بحب. لم يكن الطعام هو الغاية فقط، بل أيضا تحقيق تلك اللمة على المائدة، والحديث عن بركات الشهر، والاستعداد ليوم صيام جديد، فيكون ذلك دربًا من دروب التربية بالقدوة والمثال.
وعند الغروب، يكون المشهد أروع. يجلس الأب مبتسمًا، يرفع يديه بالدعاء قبل الإفطار، فيراه الأبناء ويقلدونه دون أن يطلب منهم. يهرع الصغار إلى تمراتهم، وهم يرددون بتلعثم: “ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله”، مقلدين ما يسمعونه عن والدهم كل يوم. يكاد الأمر يكون أشبه بلوحة مرسومة بإتقان، حيث تتناغم العادات مع القيم، فتترسخ في القلوب قبل العقول.
أما صلاة التراويح، فتكون موكبًا من الروحانية، حيث يمسك الأب بيد أصغر أبنائه، ويخرجون معًا إلى المسجد. في الطريق، يتحدث عن رحمة الله، عن ليلة القدر، عن صلة الرحم.. فيزرع الكلمات كما تُزرع البذور في الأرض الطيبة، ولا عجب أن تثمر حين يكبر الأبناء، فيسيرون على نفس الدرب.
وفي نهار رمضان، كان الأبوان يحرصان على زيارة الأجداد، وتفقد الجيران، وصلة الرحم. لم تكن تلك دروسًا نظرية، بل مواقف حية تُنقش في ذاكرة الأبناء؛ يرون بأعينهم كيف أن رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام، بل جسر يصل القلوب، ومناسبة تجدد الروابط، وفرصة لإحياء معاني العطاء.
ومع مرور السنين، يكبر الأبناء، ويصبح كل واحد منهم أبًا وأمًا في بيته، يكررون الطقوس نفسها، بنفس الحنو، بنفس الدفء. وهكذا، جيلًا بعد جيل؛ رمضان ودفئ لمة رمضان يُنقل ليس بالكلمات، بل بالقدوة، كما الأب يفعل، وكما الأم تُضيء الدرب، فتكون البركة ممتدة، ما بقي في البيوت دفء الإيمان وروح الرحمة والمودة.