إن دائرة الوعي التاريخي أوسع وأشمل من الوعي السياسي. إذ يعلم المتابع للسياسة العالمية كيف تستعمل الحروب بالوكالة كأداة فتاكة بالمناهضين لمصالح هيمنة الاستكبار العالمي واستراتيجياته الكبرى الهادفة إلى تشكيل خريطة جديدة لعالم تكون فيه السيادة لبني صهيون وأذنابهم المتكالبين على خيرات بلادنا والمتآمرين على احتلال قدسنا الشريف وفلسطين الجريحة والمطبعين مع أعداء ملتنا وديننا.
نذكر الأجيال الصاعدة بيوم عظيم، ونذكر السيد ماكرون Macron، بتاريخ نظامه الفرنسي الاستعماري الأسود، ولا يحجبنا ذلك عن احترام الشعب الفرنسي الذي يكتشف يوما عن يوم المسؤولين الحقيقين عن أزماته المتشعبة، وألاعيب مسوقي “الإسلامو فوبيا” و”مظلومية بني صهيون” في إحداث تصدع اجتماعي داخل بنية المجتمع الفرنسي، الشاك المتشكك في طبقته السياسية، وفي ديمقراطيته العجوز.
لن ننسى أبدا تاريخ بلدنا الحبيب و”النهضة المسجدية” التي أطلقت شرارة الحماس الوطني لمقاومة المستعمر الفرنسي.
يقول الأستاذ معنينو في كتابه “ذكريات ومذكرات”: “الهزة النفسية الكبرى تنطلق من “المسجد الأعظم” بسلا بذكر اسم الله اللطيف”. ويقول: “أود بكل نزاهة وتجرد أن أسجل للتاريخ وللأجيال الصاعدة حقيقة انطلاقة الشرارة الأولى لمقاومة الظهير البربري المشؤوم الذي أصدرته السلطات الاستعمارية بتاريخ 16 ماي 1930 م. وذلك بذكر اسم اللطيف في المسجد الأعظم بمدينة سلا يوم الجمعة 27 يونيو 1930م، والتي أعطت أكبر انتفاضة للشعب المغربي قاطبة ضد الاحتلال والوجود الأجنبي في هذه البلاد”. 1
ولتقريب الصورة بوضوح لشبابنا “الأون لايني” (on line) الذي يكتشف تاريخه عبر منشورات “اليوتوب” بعدما فقد الثقة في تاريخ مقرراته الدراسية الانتقائية والمتجاوزة علميا في زمن الثورة الرقمية، ولنقدر قدر هذه المشاهد الإيمانية المهيبة، والغيرة الوطنية الراشدة، أنقل لكم ما قاله الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، في كتابه “حوار الماضي والمستقبل” مشيدا بأصحاب المبادرة التاريخية الراشدة، ومستشهدا بفقرات توقظ الوسنان من كتاب الأستاذ أحمد معنينو رحمه الله يقول: “كان المسجد إذا المكان، وكان الغضب على الظهير البربري الباعث. حاول المستعمرونَ إحياءَ القضاءِ العرفي البربري ليحاربوا به القضاء الشرعي، وليفرقوا بين العنصرين الأساسيين في المغرب: البربر (الأمازيغ) والعرب. حاولوا طعن المغاربة في الصميم: في دينهم. فهبَّ الوطنيون، عرباً وبربراً(أمازيغ)، لمقاومة الكيد الاستعماري مستظهرين بأقْوَى ما في ذاتهم: دينهم.
وانطلقت الشرارة من المسجد الأعظم بسلا إلى سائر مساجد المدن المغربية، يفزَعُ المسلمون، بقيادة النخبة الوطنية، إلى الله عز وجل كما يفعل المسلمون عند النوائب والكوارث. ويُرَددونَ دعاءَ الاستغاثة:
«اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادِر، ولا تفرِّق بيننا وبين إخواننا البرابر (الأمازيغ)».
كان الحاج أحمد معنينو من أبطال المظاهرة المسجدية الأولى بسلا. ويذكر الخشوع الإيماني العميق الذي كان يَغشَى المسلمين المستغيثين بالله خلف قيادة أئمتهم وعلمائهم. قال: «وسرعان ما وقف العلامة الحاج علي عواد خطيباً، مفتتحاً خطبته التاريخية القيمة، بعد البسملة والحَمْدلَة والصلاة على النبي الكريم، بقوله بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
ظهر الفساد في البَر والبحر بما كسبت أيدي الناس… الآية. ثم زاد:
عمَّ الطوفان، وكسدت الأسواق، وعظُمت المصائب، وحلّت النوائب. ولا مخرج ولا ملجأ إلا بالرجوع إلى الله العلي القدير، والتوبة والمغفرة والإنابة إليه سبحانه. وطلبِ اللُّطْفِ والرحمة لعباده المتقين… إلى أن قال ودموعه تنهمر كالسيل: اللهم يا لطيفُ نسألك اللطف فيما جرت به المقادر…».
قال الحاج أحمد معنينو: «عمتني البُشرى، وانشرح صدري، وبكَيْتُ طويلا، وشكرت المولى عز وجل على ما هداني إليه، وعلى التوفيق العظيم الذي حالفني في هذا اليوم العظيم». 2
ما زال اللطفُ يحيط بنا … والسيرةُ حُفَّتْ بالبَهَجِ
حمداً لله يوفِّقُنا … حتى نرقى أعلى الدَّرَجِ
في صُبْح الناس لنا عمل … ونقوم الليلة في الدُّلَجِ
ندعو للخير بلا وَجَلٍ … ونقيم العدل بالحُجَجِ
أهلَ الإحسانِ أحبَّتَنَا … طِبْتُمْ، نفديكُمْ بالمُهَجِ
نَصَرَ المولى خَطواتِكمْ … وأغاثَ الأمةَ بالفَرَجِ 3