إن الصعوبة الإبستمولوجية لتحليل “ظاهرة” الدين والتدين كما أسماها علماء الاجتماع، تتمثل في الموقف الذي شهده المغرب ليلة السبت 21 مارس 2020 بعد قرار الحجر الصحي الذي اتخذته الدولة كإجراء وقائي، حيث خرج الناس بنداءات “الله أكبر” من نوافذ البيوت والأسطح ومنهم من خرج إلى الشوارع، يدعون “اللطيف” كما يفعلون في صلاة الاستسقاء.
وكان تفاعل مواقع التواصل الاجتماعي كالتالي: منهم من نسب هذا السلوك لتيار سياسي، ومنهم من نسبه لتهور طائش لشباب متهور، ومنهم من نسبه لسياسة الجهل والتجهيل وقلة الوعي.. وغيرها من التفسيرات المتضاربة.
لتحليل الحدث نحاول التأمل في مدى صحة التأويلات والتفسيرات السابقة، ونبدأ من كونه نتيجة لتحريض تيار سياسي موجّه ومنظم؛ بتتبع تطور الأحداث من بدايتها، أي بعد الإعلان عن رفع النشيد الوطني من الأسطح من طرف مغنين لم يُظهروا مبادرات تذكر في هذه المحنة، علّق مجموعة من الناس ومعظمهم شباب واستنكروا الأمر واقترح بعضهم رفع التكبير بالمقابل، وفعلا كان، تم تناقل الحدث في مواقع التواصل الاجتماعي وتكرر في باقي المدن بمسافات زمنية معقولة من العاشرة ليلا إلى ما بعد منتصف الليل بساعات، بدءا من مدينة طنجة؛ إذن لا يظهر التنظيم والتخطيط بل العفوية متجلية واضحة وإلا لكان انطلاق التكبير في وقت واحد في المدن كلها.
كونه تطور طائش لشباب مستهتر، “شمكارة” على حد قول بعض المدوّنين؛ فالفئة التي ظهرت في جميع الفيديوهات تختلف من أطفال وشباب وفتيات ونساء ورجال كبارا وصغارا…
كون سببه الجهل والتجهيل وقلة الوعي المرتبط بالتدين المتطرف؛ رأينا سابقا أن الفئات كانت مختلفة ومتنوعة ولا يظهر عليها مظهر موحّد لتديّن أو غيره، أما عن الجهل والتجهيل وقلة الوعي، ففعلا كون الناس يخرجون خلال الحجر الصحي فهم لا يدركون خطورة الأمر ولم يعوا معناه.
نخلص، إذن، إلى أن خروج هذه الفئة وهي فئة من الطبقة الضعيفة اقتصاديا ومعرفيا، يفسّر تدني المستوى التعليمي والتأهيلي عوض أن يرقى بهم، كما أن لجوء الناس للتكبير من منازلهم أمام نداءات الغناء والتغني في القنوات الرسمية وفي المواقع الإلكترونية هو رد لفعل استفزّ مشاعرهم واستنكروا من خلاله تفاهة ما يروج له، وأكدوا بفعلهم التلقائي أن مرجعيتهم دينيّة محضة وأن اللجوء إلى الله هو النجاة والمنجى مع أخذهم بالأسباب، ألا وهي تطبيق الحجر الصحي على أنفسهم. تكبير بالدموع والمشاعر العاطفية الجيّاشة يظهر أن أكبر ما يحرّك شعبنا ويؤثر فيه هو الدين وليس الشعارات الفارغة الجوفاء.
إن دراسة الظاهرة الدينية كما يعبر عنها علماء الاجتماع من أكثر الدراسات تعقيدا وغموضا، لعدم إمكانية إخضاعها لمقاييس العقل البشري الذي يبقى قاصرا أمام إعجاز الله في الكون، وقد أسفرت في أحسن نتائجها عن إضفاء المزيد من القداسة والغموض عليها، فلجأت إما إلى تجاهله وإلغائه من الاهتمام واعتباره “وهميا” وجب إزالته، أو “عصابيا” نفسيا يعانيه الإنسان (حسب ماكس وفرويد)، وهذا ما يحاول ترسيخه أنصار هذه التيارات منقادين وراء نحلة الغالب انقيادا أعمى، إن كان الأمر كذلك فلم يعود الناس ويلجأون إلى الوازع الديني في أشد الحالات بغض النظر إلى مرجعيتهم الدينية؟ ويجدون من خلاله الاستقرار النفسي الذي يبحثون عنه، حتى بالنسبة للحالات النفسية التي لا تنتسب لأي دين؟ إذن، فالدين حاجة إنسانية تنتمي إلى حاجات النفس الأساسية الفطرية التي يشترك فيها جميع البشر، ولا يتحقق التوازن النفسي والاستقرار إلا من خلال إشباعها.
ونخلص أيضا إلى أن الشعب المغربي متدين بعفويته وتلقائيته بعيدا عن أي توجهات سياسية، متعلّق بالله في أحلك الظروف رغم الغفلة، فليس هناك بديل عن ترسيخ القيم الدينية بشكل سليم وصحيح، وتوعية الشعب بها من خلال سياسات تعليمية جادة ومتوازنة في بناء الهوية، ومن خلال الخطاب الديني المعتدل الواقعي بعيدا عن الرسميات الجافة، بتوافق تام مع القنوات الإعلامية التي تفرغت لكل ما هو تافه وطبّلت له، فالقنوات الإعلامية صار لها الدور التوعوي الأكبر أو التجهيل الأخطر الذي يأتي على الأخضر واليابس.
الحدث رسالة قوية أن لا مفر من استحضار ديننا ومعتقداتنا بشكل صادق في كل ما نخطط له، كي لا يحيد الشعب عن جادة الصواب وينساق لما يهلكه عن غير وعي فيسوقنا جميعا.