رمضان نعمة عظمى تستوجب منا شكر العزيز الوهاب. هو ضيف عزيز يفرح به المؤمنون كافة كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم. وفرصة من العمر قد لا تتكرر ومناسبة للصلح مع الله سبحانه وتعالى. وهو فرصةٌ ثمينةٌ للتغيير سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع.
فما هي معالم التغيير المنشود؟
إن الصومَ من أهم العبادات التي تُكسِب المؤمن تقوى الله عز وجل، الذي هو من المقاصد الكبرى لشهر رمضان، مصداقا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة، 183).
وهو شهر تربية بامتياز؛ نظرا للأجواء العامة المحتضنةِ لأفعال الخير والاجتهادِ في العبادة على مستوى المجتمع ككل، بل وعلى مستوى الأمة جمعاء، في إطار عبادة جماعية مُذَكرةٍ بخصال الخير قولا وعملا.
وهو فرصةٌ لمن نَشدَ التغييرَ وسعى لبناء نفسه وتجديدِ إيمانِها، حيث تتنوع العبادات والاجتهادات وتَقوى فيه صحبة الخير والتذكير به.
لذلك على المؤمن أن يسعى أن تكون محطةُ رمضان محطة تغييرٍ جَذري عميق يبدأ بتوبة نصوح، تَنقُله من أنانيته وشحه، من عاداته الممسكةِ له عن الخير، الساكتةِ عن المنكر وغيرِ الآمرةِ بالمعروف، الممسكةِ له عن البذل، و عن الرفق و التؤدة، وعن الخلق الحسن بين الناس، وعن الصبر والمصابرة، وعن الجهاد.
وأن يسعى أن تكون توبتُه توبةً تنقُله من عالم الغفلة عن الله إلى عالم اليقظة والتهمم بلقاء الله عز وجل، تنقله من عالم الاستخفاف بدين الله إلى المشاركة المهمومة في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
رمضان ضيفٌ غيرُ مقيم.. فكيف نحافظ على مكتسباته؟
إن ما يَشحذه رمضان من عزيمة على فعل الخير والإكثار من الطاعات في جو عام مُعِين ومُيَسرٍ للالتزام بها، قد يضعفُ ويتلاشى مع مضي الشهر والعودةِ إلى سابق العهد؛ الانشغالات اليومية والغفلة والانهماك في متاعب ومشاكل الحياة، لذلك ينبغي أن يكون صدق المؤمن في الطلب حافزه للبحث عن الحيلولة دون تلاشي عزماتِ رمضان، بل مواصلةِ الاجتهاد والرقيِّ في مدارج الإيمان وطلبِ وجه الله عز وجل. كما قال تعالى في سورة النحل وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا (من الآية 92).
وأولُ الطريق تبدأ من شهر رمضانَ نفسِه وعبادةِ رمضان، فيحرِص المؤمن أن تكون هذه العبادةُ بكل جوارحه لا أن تكون عادةً من العادات يؤديها كلَّ سنة جوعا وعطشا دون روح تغذيها. فصيامٌ بكل الجوارح قلبا وأعضاءً، خوفا ورجاءً، نيةً وإخلاصا، محبةً وتعظيما، كفيلٌ بأن يعطي المؤمن شحنةً إيمانيةً يتذوق حلاوتها فيصعب عليه فراقها بعد رمضان، فيبحث ويجتهد في الحفاظ عليها متيقظةً حاضرةً متوهجة، وكلما أحس بقرب ضياعها منه سارع لإشعال جذوتها بالذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام وخدمةِ الناس والاجتهاد في كل روافد الإيمان حتى يبقى نهره متدفقا رقراقا يُغذي روحه ويحيي أوصاله. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم” (رواه الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه) وفي حديث آخر قال عليه الصلاة و السلام “جددوا إيمانكم، قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله” (رواه أحمد والحاكم والطبراني).
تكرار كلمة التوحيد والإكثار منها دواءٌ ناجع للحفاظ على جذوة الإيمان مشتعلة لا تخلق ولا تبلى، بل دواءٌ لإذكائها وإشعالها حتى بعد أن تخمد.
وإذا كان الإيمان يزيد وينقص، فإن كمالَه لا يتم إلا باستمداد قلبِ المؤمن من كل شعبِه، والتي أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما كل شُعب الإيمان التي تفسح المجالَ واسعا لتحْدِثَ فيه التحولَ المطلوب الذي يوقفه وقوفا دائما على باب الله الكريم، ويجعلُ عملَه على مقتضى الكتاب والسنة.
ولا ننسى أيضا التذكير بالبيئة المساعدة المذكرةِ بالله والمُحفزةِ على فعل الخير، والمُحَذرةِ من التخاذل والغفلة عن الله، وما هذه البيئة المساعدة إلا صحبة خير وإيمان، فـ“المرءُ على دينِ خليلِه فلينظُرْ أحدُكم من يخالِل” كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه ابن حجر العسقلاني في تخريج مشكاة المصابيح، 4/442).
وفي تزكية رمضانَ، والحفاظِ على ذلك بعده، الأثر البليغ على الفرد؛ لأن كمال الإيمان والسعي إليه هو كمال المؤمن في معناه، وما يحصِّله المؤمن من التحلي بصفات الإيمان والتخلقِ بشعبه هو مدى كمالِه الذاتي، يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: “ليس الإيمان معنىً مضافا إلى ذات الإنسان، بل هو معنىً قائمٌ بها” (المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص 184).
وفي سعي الفرد لاكتساب شعب الإيمان، وتجديده والمحافظة على جذوته مشتعلة، حركية وتفاعلٌ مع واقعه وبيئته؛ إذ كثيرٌ من هذه الشعب لا معنى لها و لا روح دون النزول بها إلى واقع الناس، فيخرج بهذا الإيمان من حيز الذمة الإيمانية الفردية ليصبح قوةً فاعلةً في المجتمع. وعلى سبيل المثال لا الحصر: لا معنى للتكافل الاجتماعي دون الاهتمام بحاجات الناس، ولا معنى لإماطة الأذى عن الطريق دون التفكير فيمن سيتأذى به، ولا معنى لحسن الخلق إلا في الصبر والبذل والمداراة واللين.. مع الناس.
وهكذا فإن حرص المومن على خيرِ رمضان لما بَعْدَه، له أثرُهُ الحميد و الأكيد على الفرد والمجتمع.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، ويكتبنا من عتقاء شهر رمضان الكريم، وأن يمتعنا بالنظر لوجهه العظيم.