إلى ماذا ستؤول الأحداث بعد مائتي يوم من العدوان الهمجي على غزة؟ هل ستسمر الإبادة الجماعية والجرائم ضد شعب أعزل؟ هل سيستمر التجويع والحصار؟ هل سيظل الموقف الدولي المساند للصهاينة على حاله دون تغير؟ هل سيظل الموقف العربي العاجز على حاله لا يراوح التصريحات والمبادرات والزيارات؟ وإلى متى ستبقى المقاومة صامدة؟ وهل سيصمد المجتمع الإسرائيلي طويلا؟
دون شك أنه عندما خطط الصهاينة وحلفاؤهم للرد على صدمة “طوفان الأقصى” أرادوا أن يكون الرد انتقاما سريعا حاسما قاسيا وشاملا، بعد أن تيقنوا أنهم أمام هزيمة استراتيجية، ستغير مستقبل المنطقة على مدى أجيال، وهم يعلمون أن كل ردود أفعالهم السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية لن تغير من هذه الحقيقة شيئا، فكان التوجه نحو تقليل الخسائر واحتواء الموقف بشكل عاجل وشامل، وهذا ما يفسر تشكل تحالف دولي سريع ضد غزة ومقاومتها يشبه إلى حد بعيد تحالف عاصفة الصحراء.
فإلى أي حد تحققت الأهداف المرسومة والمرجوة؟ أي السرعة والحسم والقسوة والشمولية؟
1- السرعة: كانت إسرائيل دائما تراهن على الضربات الخاطفة والسريعة، لأن طبيعة ديمغرافيتها واقتصادها ونسيجها المجتمعي لا يصمد أمام الحروب الطويلة، فالحرب الطويلة تعني الأزمات الاقتصادية والهجرة والفرار والتمرد والانشقاقات، والصراع بين قوى المجتمع وطبقاته، وهو ما سيتفاقم مستقبلا كل ما كانت الخسائر أكبر، وهذا ما يحدث فعلا الآن رغم التكتم والتمويلات الغربية السخية المباشرة وغير المباشرة للحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية، ويضاف إليه دخول المقاومة اليمنية على الخط التي كبدت الاقتصاد الصهيوني خسائر جسيمة وحاصرته إلى حد بعيد..
2- الحسم: كان الاتفاق مع الغرب ومع بعض الأنظمة العربية الحليفة القضاء المبرم على المقاومة الميدان والنموذج، واستئصالها نهائيا بعد توفير الغطاء الإعلامي والسياسي للعدوان الصهيوني، فتم شيطنة المقاومة ودعشنتها وشرعنة الرد الصهيوني مهما كانت همجيته وبشاعته، لكن صمود الغزاويين والمقاومة الفصائلية الداخلية ومحور المقاومة الخارجية على مدى مائتي يوم من القصف العسكري والإعلامي والسياسي كان فوق التوقعات رغم كل الضغوطات والتحديات.
3- القسوة: قد تكون هذه هي النقطة الوحيدة التي سجلتها الآلة العسكرية الصهيونية وحلفاؤها السياسيون والميدانيون، فالهمجية كانت فوق الوصف كما ونوعا، وذكرت العالم بمجازر البوسنة والهرسك ورواندا، لكنها قسوة لم تفلح في تحقيق الأهداف، فالمقاومة لم تستسلم والشعب لم يفر ولم يترك أرضه رغم القتل والتجويع والحصار، وأسقطت كل مخططات التهجير و”الوطن البديل” للفلسطينيين، وهذه القسوة البشعة لم تستثن حتى الوجود الغربي الإعلامي والإنساني، ولن نظنها ستكون أبشع أو أفظع إلا أن تقيم إسرائيل “أفرانا للغاز” على مرأى ومسمع من العالم.
4- الشمولية: كان الهدف المعلن المتفق عليه القضاء على المقاومة بأي ثمن وضمان أمن إسرائيل وتحييد كل تهديد محلي وإقليمي، فأطلقت يد الكيان الصهيوني لضرب المقاومة الفلسطينية وحزب الله بشكل مباشر، وضرب إيران ووجودها في لبنان وسوريا والعراق واليمن بشكل غير مباشر، واستعادة السيطرة على القطاع وتسليمه للسلطة مجددا، لكن دخول إيران على الحرب بشكل معلن ودون وسائط عقّد الوضع، وأسقط ما تبقى من “أسطورة الردع والتفوق الصهيوني”.
الخلاصة أنه وبعد مائتي يوم من الحرب لم تنجح الصهيونية وحلفاؤها في تحقيق أهدافهم على الأرض، لم يتم السيطرة على غزة عسكريا رغم الاجتياح ورغم حجم الخسائر “الإسرائيلية” البشرية غير المسبوقة في أي مواجهة، لم يتم تدمير بنية المقاومة، ولم يتم استرداد الأسرى، ولم يستطع فرض شروطه على المقاومة، ولم ينجح في تهجير الفلسطينيين، ولم يتم ردع إيران وأذرعها في المنطقة، ولن ينجح في ذلك بكل تأكيد فهذه “الفرصة التاريخية” والتكالب الدولي الكلي لن يتكرر ولن يستمر، والمهلة التي منحها الغرب للكيان لتحقيق أهدافه وأهداف الغرب لم تؤت أي نتائج تذكر، بل جاءت بنتائج عكسية ومدمرة جدا بالمقابل، فبعد مائتي يوم من العدوان الصادم بدأ المتابعون يسجلون:
– بداية تصدع في التحالف الدولي واختلاف المواقف والتقديرات، في الساحات الدولية والمنظمات الأممية.
– ارتفاع التكلفة الإنسانية التي كانت فوق التوقعات رغم حجم التكتم، سيكون له تأثيره فالدم ينتصر في الأخير.
– اتساع رقعة الزيت وبداية حراك شعبي دوليا وعربيا، سيكون له بداية لتحولات كبرى تشبه ما وقع بعد نكسة 67.
– تصلب مواقف الأمم المتحدة وهيئاتها العاملة ونيتها في ملاحقة الكيان ورموزه.
– توسع تحالفات إيران وتكريس صورتها ككيان راع وداعم للفعل المقاوم، وترميم صورتها التي تضررت بفعل تدخلها في سوريا.
– تضرر صورة وسردية إسرائيل في العالم، وبداية تعاطف واسع مع القضية الفلسطينية.
– تراجع سرعات التطبيع العربي، وسقوط مسلسلات السلام، وكبح سرعة التوسع الصهيوني في المنطقة.
– تعزيز الرهان على خيار المقاومة، فصمود الغزاويين وصمود المقاومة فرض حالة نموذجية متقدمة.
– ظهور تصدعات وانشقاقات ومواجهات في إسرائيل، وقرب انهيار قوة اليمين الديني المتطرف وتقليم أظافره.
– سقوط التهجير والوطن البديل وكل مخططات إقبار القضية الفلسطينية.
– الفشل في إعادة ضبط المنطقة وترتيب الأوراق غربيا، بل تم إرساء قواعد جديدة للاشتباك في المنطقة وإدارة الأزمات، وتجاوز الأنظمة العربية التقليدية.
– تآكل منظومة القيم العالمية التي أرساها الغرب ودافع عنها وقاد بها العالم؛ كالديمقراطية وحقوق الإنسان.
– بداية تراجع الإذعان والخضوع الغربي للابتزاز السياسي والإعلامي والمالي الصهيوني المتطرف.
هذا على مستوى التحليل الأرضي الذي يناقش ويواكب عالم الأسباب، أما على مستوى التحليل المنطلق من حقائق القرآن والمستند إلى شواهد الإيمان، فكل المؤشرات تدل على بداية النهاية لهذا “العلو الكبير”، وأن مشيئة الله وما يجريه من أقدار تبشر الإنسانية بفجر جديد، سيقول الإسلام كلمته وسيسمعها العالم، فإنما هي سنن وأيام قد تكون مائتين أو أكثر، قال ربنا عز وجل يخاطبنا ويخاطب من بعدنا، كما خاطب من قبلنا: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران.