كثيرا ما تبقى النظريات حبيسة عالم التجريد دون أن تتحول إلى ممارسة، وقد تتحول إلى ممارسة نقيضة أو مشوهة، وغالبا ما تقع مفارقات بين مقتضيات المبدأ والموقف الإجرائي الواقعي؛ وقوة فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أنه أنتج ممارسة تجديدية عملية، ترجم ذلك عمليا وتنظيميا تأسيسه لجماعة العدل والإحسان الحاملة لمشروع تغييري زاوج بين الفكر التنظيري والواقع الإجرائي، وأنتج فكرا عمليا واقعيا، واعتمد أسلوب التدافع السلمي عبر الكلمة الحرة والنصيحة والمعارضة الفاعلة. مشروع مغربي أصيل يتعامل ويشتبك مع المتغيرات الواقعية في تفاعل تام مع حركة الحياة وتطورها، وفي جمع وانجماع بين الكدح الدنيوي والمعاد الأخروي.
وقد أكد الإمام المؤسس عبد السلام ياسين رحمه الله ذلك في كتاب المنهاج النبوي الذي أسس لتصور ومنهاج وخطة عمل الجماعة، موضحا أن: ”وظيفة المنهاج النبوي العلم والعمل مترابطين، النداء والاستجابة متلازمين، الرحمة والحكمة متعاضدتين، أمر إلهي وطاعة، خطة وتنفيذ معا، وإلا كان النفاق، نفاق الذين يقولون ما لا يفعلون“ [1].
إن حدث إحياء جماعة العدل والإحسان للذكرى الأربعين لتأسيسها يشكل إضاءة للذاكرة بكل أبعادها؛ التربوية، الفكرية، السياسية، الشبابية، الاجتماعية، والحقوقية؛ فالذاكرة تعد من أهم مرتكزات الوعي الجمعي، لما تمثله من شواهد تاريخية، توثيقا للحقيقة وتحصينا لها من النسيان والإهمال أو الطمس والتزييف والتبخيس والتحريف.
كما تعد محطة إحياء ذكرى حدث مَّا، والتأريخ لمرحلة معينة، فرصة لتلاقح الأجيال السابقة والحالية والناشئة واللاحقة، لإعادة بناء وعي مشترك مستوعب للأحداث والوقائع المختلفة والروايات المتعددة، ومد الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ وعي لا يقف عند الوصف التقييمي، بل يغادر السهول الواطئة للشكوى القاعدة العاجزة، ويأخذ المبادرة، اقتراحا للحلول، واقتحاما للعقبات، وتفعيلا للإرادات.
أولا – الذكرى وفاء لجيل التأسيس
يفرض حدث إحياء جماعة العدل والإحسان للذكرى الأربعين لتأسيسها علينا نحن الشباب والشابات الذي ترعرعوا في ظلال هذه الشجرة المباركة ونحن نحيي مع جماعتنا هذه الذكرى، أن نفتخر ونعتز -أولا- بما قدمته جماعتنا بقيادة جيل التأسيس من عطاءات تربوية وفكرية ورؤى سياسية وعمل دؤوب في الدفاع عن قضايا الأمة وسط محن أمواج بحور الأربعين سنة الماضية بظروفها المتشابكة الصعبة، مما جعل الجماعة ولله الحمد والمنة تحتل مكانة متميزة ونوعية في مختلف ميادين الفعل والتدافع.
ويوجب علينا -ثانيا- بالمقابل الاستمرار في حمل المشعل والثبات على المبدأ ومواصلة الطريق الذي سلكه من قبلنا إخوانا وأخوات لنا منهم من يواصل المسير بروح ونفس البدايات ولم يهن بل يزداد عزما ورشدا، ومنهم من رحلوا رحمهم الله إلى دار البقاء والعطاء قبل أن تكتحل عيونهم برؤية حصاد زرعهم وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [سورة الشورى، الآية 33]. ووفاء لكل هذه الأرواح الطاهرة ينبغي مواصلة الحفاظ على ما أثلوه من إرث وما رصعوه من صفحات عز مشرقة نفتخر بها، وننفتح على المستقبل الواعد بإذن الله، وننظر برؤية دقيقة لواقعنا كما هو على حقيقته وليس بالمقارنة الالتقاطية مع ما مضى، بل بالبناء على أصوله، وبذل الوسع في الاجتهاد حسب متغيرات الواقع ومستجداته، فلكل جيل خيره وبركته، ورجاله، ومتغيراته، وإنجازاته، وإخفاقاته؛ فالجماعة تجمع بشري يبذل الوسع في الاجتهاد، فينجح ويخفق، ويعتريه النقص، ويخضع لنواميس الكون، فالكمال لله وحده عز وجل. ونسأل الله عز وجل أن نكون خير خلف لخير سلف.
إن من كتب الله عز وجل له صحبة جيل التأسيس يدرك معدن هؤلاء الرجال الربانيين ولا نزكي على الله أحدا، وأنت في صحبتهم ومعاشرتهم تكتشف أن لا قيمة لملذات الدنيا الفانية في أولوياتهم، ومع الزمن تصبح تلك قناعة لأنك رأيتها وعايشتها مجسدة أمامك، فالله عز وجل أهداك تجربة لترى عن قرب كيف يكون قلب من أنعم الله عليه، يرجو الآخرة ويحب لقاء ربه عز وجل، وتتعلم كيف تكون السعادة في العطاء لا الأخذ؛ ولا شك أن كل عضو من شباب الجماعة ذاكرته تختزن العديد من المواقف والتجارب والذكريات والدقائق الغالية في صحبة هؤلاء الدعاة الفعلة، ولا ينكر ذلك إلا من أصاب ذاكرته يتم الذكريات.
فالرجال المؤسسون هم لحمة المشروع وسداه، وفي كل تجارب المشاريع التغييرية تظهر محورية جيل التأسيس في مرافقة واحتضان التجربة، فهم القادرون على فك الكثير من تعقيدات القضايا والإشكالات، وأي حركة أو مشروع محتاج لقياداته وآبائه المؤسسين لضمان قدر من التوازن الذي يحفظ وحدة وثبات الجسم الداخلي واستمرارية أدائه، ويحصن المسار خلال المنعطفات والتحديات والمخاطر.
إن الصورة التي تريد أن تصور وتختزل جماعة العدل والإحسان في قيادة ”متحكمة“ في رقاب ”مريدين تابعين وخاضعين“ هي صورة جد مضللة، فلو كان أعضاء الجماعة بهذه الرخاوة والتبعية لدجنهم المخزن وأخضعهم منذ زمن بعيد، ولانفضوا من حول الجماعة في أول اختبار من اختبارات الصمود أمام مختلف المحن التي طبعت مسيرة الجماعة.
صحيح أن رمزية وكاريزمية جيل التأسيس تحكم على قيادة الصف الأول بالبروز وتصدر الأحداث خاصة الكبرى منها. لكن ما إن تسمح الفرص المجتمعية بمشاركة الجماعة في مبادارت معينة حتى تبرز قيادات من صفوف متعددة في الجماعة، وحالة حركة 20 فبراير خير مثال، حين تفاجأ الصديق قبل الخصم بمستوى جاهزية جسم الجماعة، لا من حيث قوة التنظيم، ولا من حيث مستوى الفاعلية والتكوين والتأطير والتعبئة والتأثير، وأضحى ”دراويش الجماعة“ -كما كان يتوهمهم البعض- يتصدرون المشهد.
مما يؤشر على أن سنة التشاور والتداول والتغيير تسري داخل التنظيم الذي كانت الآلة الدعائية تصفه بـ”الثلاجة“؛ إن هذا التقييم ليس نرجسية متعالية، وإنما وصف لحقيقة تسندها وقائع ومعطيات شاخصة وتعضدها تصريحات العديد من المنصفين.
ثانيا – التربية أحيت أجيالا من الشباب
لقد أدرك الرعيل الأول أن الاستغراق في قضية التربية صمام الأمان للفرد والجماعة؛ واستمرت الجماعة في التركيز على التربية من خلال منهاج تربوي محكم يسري في كل مستويات الجماعة، ولا يسمح بإرجاء العمل به مهما كانت الظروف والمبررات.
ومن جمالية تدقيق مصطلحات المعجم التربوي لجماعة العدل والإحسان، أنك عندما تتلفظ بعبارة ”الجانب التربوي“ يتم تدارك الأمر لتصحح الخطأ، لأن المصطلح المعتمد هو الأساس التربوي؛ مما يبين أن الجماعة تجعل قضية التربية على رأس كل القضايا، حيث عدها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله منذ صياغته لمشروعه التغييري مقدمة أساسية لبناء الإنسان ذي الشخصية المتكاملة، فأضحت توجيهاته وإرشاداته لا تملّ من التذكير والتأكيد على محورية التربية بمعناها الشامل، الإيماني الإحساني، والخلقي القيمي، والفكري، والعلائقي؛ تربية تحرص الجماعة أن تتحقق في مجموع أعضائها بمعناها الجامع بين السلوك الفردي والخلاص الجماعي، لكونها العنصر الحاسم في معادلة وجود الأمة وانبعاثها.
يقول الإمام عبد السلام ياسين في مسألة توازن التربية: ”التربية الإيمانية عملية على نجاحها يتوقف ميلاد المسلم إلى عالم الإيمان، ثم نشوؤه فيه وتمكنه ورجولته، ولا جهاد بلا تربية، ولا يكون التنظيم إسلاميا إن لم تكن التربية إيمانية“ [2].
ليعود للتأكيد على أن ”كل تغيير في السياسية والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ“ [3].
وأن ”البذل والتسامح شرطان لازمان لإحلال التوازن في المجتمع الإسلامي بدلا من التنازع والبغضاء، وأهم غايات الشريعة الإلهية إتمام مهمة خلاص الإنسان وسعادته الأخروية. وهو مقصد سام لا يتحقق إلا بالمحافظة على الحياة والعقل والأخلاق والمِلْكية لتأمين النظام والأمن الاجتماعيين الضروريين لكل عمل بناء“ [4].
إن العديد من شباب المغرب مدين لمحاضن جماعة العدل والإحسان التربوية والتعليمية بدَيْن خاص، لما أولتهم به من جميل احتضان وتوجيه، ولما غرست فيهم من معاني الفضيلة والرجولة، وما منحتهم من نظرات فاحصة من أعالي التاريخ، وتوجيهات قيمية وأخلاقية قيمة، حولوها إلى ممارسة سلمية فاعلة فعلا نافعا في المجتمع، حصنتهم وأنقذتهم من أتون التطرف، وحمتهم من مختلف موبقات الميوعة والانحراف.
فالتربية هي التي بنت جماعة العدل والإحسان، وأحيت أجيالا من الشباب، انتشلتهم من الغواية والضلال، وغرست فيهم معاني الفضيلة والرجولة. فكثير منهم أصبحوا اليوم أطرا وكوادر يضرب بهم المثل في الجدية في العمل، والتفاني في خدمة الوطن كل حسب تخصصه [5].
إنه ليس من السهل أن يقضي جيل، رجالا ونساء، أربعة عقود من الحرص على النية الصادقة، والتوجه المخلص لله رب العالمين، والعمل الجاد المسؤول، وسط أمواج الفتن المتلاطمة، ومد جسور التواصل والتعاون مع الشباب، أمل الأمة وملاذها، فتنتشلهم من الانحراف والضلال والتشدد والتكفير، وترسم لهم طريق المستقبل المشرق الذي يعطي للحياة معنى إيجابيا ممتدا في الزمان إلى يوم القيامة، ولا ينتظر ثمارا دنيوية لسعيه، إن جاءت فذاك أطيب المنى، وأخرى تبغونها، وإن لم يتحقق ذلك، فالبناء إلى رشاد كما يرشد الرجل في الأربعين من عمره، وكما تقتضي العبودية الكاملة الشكر على نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، مصداقا لقوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُتقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف، الآية 15، 16] [[6]].
ثالثا – الشباب وثلاثية لاءات الجماعة
اعتمدت جماعة العدل والإحسان حين تأسيسها بشكل أساسي على العنصر الشبابي، ويسجل للجماعة أنها استطاعت أن تقدم تجربة رائدة في احتضان وإعادة توجيه وترشيد عنفوان وحماسة الشباب، بالنظر إلى الظروف المحلية التي ولدت فيها، والضغوطات الداخلية والخارجية المختلفة في تلك الفترة.
ويجدر الذكر أن المرشد المؤسس عبد السلام ياسين سيج الممارسة العملية لجماعة العدل والإحسان بسياج اللاءات الثلاث، باعتبارها منطلقات توجه المشروع، وآليات تضبط فعل وسلوك الجماعة، والتي حددها في ثلاثية: لا للعنف، لا للسرية، لا للتعامل مع الخارج.
1- لا للعنف
منذ سبعينيات القرن الماضي وفي زمن الجمر والرصاص، حين كان العنف والعمل المسلح خيارا لعدة مسارات، قدم الإمام عبد السلام ياسين رؤية إسلامية متجددة متكاملة لمفهوم التغيير السلمي واللاعنفي، حيث رسخ منهج السلمية والرفق، وبذل جهدا كبيرا في الدفاع عن صوابية الخيار السلمي في التغيير، أثمر لاحقا بناء أكبر جماعة سلمية معارضة بالمغرب بعد أن كان يُنظر بالتنقيص لمن يتبنى هذا الخيار.
ففي بدايات التأسيس ناقش الإمام ياسين مسألة الخط السياسي مستعرضا ثلاثة خطوط سياسية، ”تبدو لنا ثلاثة خطوط سياسية، لا نحصر فيها إمكانات العمل التنفيذي، إنما نتخذها وجهات لتأملاتنا“ [7].
وبعد توصيف للخيارات الثلاث، خلص إلى اختيار ”خط التغيير السلمي الممانع“ واستنكار ”خط المهادنة“ والرفض المطلق لـخط التمرد والعنف ”الخط الشديد“، جازما القول بأنه: ”لا نرى للتنظيم العنيف المعتمد على الاغتيال السياسي مبررا ولا مستقبلا. إن هي إلا هزات هذا الكائن المترعرع في حضن تاريخ التجديد، يبحث عن متنفس، وعن وسيلة تعبير عن حيويته“ [8].
وعلى مدار كتب الإمام عبد السلام ياسين التي طرحت المشروع المنهاجي التغييري، يؤكد رحمه الله أن التغيير الذي ينشده لا ينبع من حماس متهور عنيف، وإنما هو تنفيذ بحكمة وتبليغ برحمة.
وبكل وضوح صريح يعلن الإمام رحمه الله: ”إن عدم استعمال العنف مبدأ لا يناقش في الشريعة الإسلامية، ولا نخجل إن نحن أعلناه“ [9].
“فالحل العنيف الصراعي الثوري الذي يوصي بالقتل والسفك، وتخريب بيت كل من انتمى للماضي حل غير إسلامي“ [10].
إن الذاكرة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان تشهد على مبدئية عملها السلمي، فرغم محن الحصار وحجم الاستهداف المخزني منذ التأسيس إلى الآن، لم يسجل أن وقعت في ردود فعل الاستفزاز، ولم تغير من قناعتها ومبدئها الراسخ في نبذ كل أشكال العنف، وكان مرشدها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله على مر سنين الظلم المخزني الذي نال منه الحظ الأوفر، يوصي الأعضاء بالحرص على السلمية والثبات على المبادئ بكلماته القوية التي كانت صوى في مسار التغيير المنشود.
واستمرت الجماعة منذ التأسيس إلى اليوم في سلميتها التي يشهد بها المتتبعون المنصفون، والذين يعتبرونها صمام أمان للمغرب، لكونها تقود معارضة حقيقية وواعية، بعيدة كل البعد عن منزلقات مطامع التمزيق والتفرقة.
فمنذ ثلاثة عقود ظلت بصمة جماعة العدل والاحسان في ترسيخ السلمية في الواقع المغربي واضحة، بل تجلت بشكل أوضح في المساهمة في تأسيس ثقافة التظاهرات والمسيرات الحضارية السلمية، والتدافع السلمي في مختلف أنشطة مجالات اشتغالها، حيث لا يمكن أن تخطئ العين رؤية قوة وسلمية التنظيم والنضج الكبير والانضباط المتميز لأعضائها. ولعل صورة واحدة من صور المسيرات الضخمة المحكمة التنظيم التي نظمتها الجماعة أو تلك التي كانت عمودها الفقري، والتي شهدتها كبرى المدن المغربية تضامنا مع قضايا الأمة أو دفاعا عن قضايا الشعب المغربي، لخير دليل على جمالية المشهد السلمي الذي عكسته السلسلات الشبابية حماية لمنشئات الوطن، وما صاحب ذلك من حملات تنظيفية لمسار المسيرات، وغير ذلك من إبداعات التنظيم والتدافع السلمي.
2- لا للسرية
استنكر الإمام عبد السلام ياسين العمل السري ونادى بالعمل العلني في واضحة النهار ”نقول بلسان بسيط إن أسلوب التنظيم السري أسلوب صبياني اضطرنا إليه فيما مضى من سابق عمل المؤمنين غربتنا واستئساد الناس علينا، وقد آن أن نطلق ذلك الأسلوب وننكره أشد الإنكار، نأثم إن ادخرنا على إخواننا -جماعات الدعوة- النصح في هذه المشكلة وفي غيرها، وعلى كل فأنا لا أنطق باسم جماعة غلطت أو لم تغلط اعترفت بغلطها أم لم تعترف، افتروا عليها أو لم يفتروا، حسبي أن أقول ما أعتقد، وأعتقد أن من بين المؤمنين في عصرنا من استعجل ودخل في السرية فتعرض لما يصحب العمل السري من غموض وعنف، وأنا لا أقر غموضا ولا عنفا ولا أسلوبا يؤدي إلى واحد منهما“ [11].
مضيفا رحمه الله: ”فسنعمل على وضح النهار وسنطلب بأن يكون لنا مواطئ أقدام تحت الشمس، وسنزاحم بالأكتاف الصادقة أكتاف رجال المصالح والمراوغات على جادة الحق حتى يستقيم لنا عليها سير، فإن منعنا من الكلام والتجمع والتنظيم فإنما ستجني الأنظمة المفتونة شوكا، ولن تبلغ من الغباوة أن تظن أنها عندما تغلق المتنفسات ستحول دون انفجار هذه الإرادة العارمة، إرادة الأمة كلها للحق والعدل“ [12].
فعمل الإمام على نقل العمل الإسلامي من دائرة السرية إلى العمل العلني حين اختار تأسيس جمعية قانونية، رفضا منه للفعل السري الغامض واختيارا للشرعية الواضحة، في وقت كان أغلب معاصريه يعتبرون ذلك مخاطرة ومجازفة غير محسوبة العواقب، وصبر من أجل ذلك على أذى الكثير منهم، وقد أثبتت السنوات المتتالية صوابية خياره وواقعيته. بل أضحى اليوم العمل السري استثناء لا تعتمده إلا عصابات المشاريع الهدامة.
3- لا للتعامل مع الخارج
رغم مظلومية جماعة العدل والإحسان التي عاشت أشكالا من الحصار والتضييق المسلط عليها من طرف النظام المغربي، لم تلجأ يوما إلى الاستقواء بالخارج أو التعامل معه كيفما كان نوع هذا التعامل، لأن الإمام ياسين كان يدرك مساوئ الارتهان للخارج والاستقواء به، لذلك حرص على بناء حركة إسلامية مغربية أصيلة مستقلة، بعيدة عن التبعية لأي مدرسة أخرى، في زمن كان فيه النسج على غير منوال ضرب من المغامرة والعزلة.
وأثبتت تجربة جماعة العدل والإحسان أن لها القدرة بما يكفي في التفكير والتخطيط والإبداع المستقل، دونما حاجة لاستنساخ تجارب غربية أو مشرقية، وأنها لم تكن يوما رجع صدى لأي تجربة خارجية ملهمة. بالطبع هذا لا يعني انغلاق مشروع الجماعة وعدم انفتاحه على التجارب الإنسانية الأخرى إفادة واستفادة، بل القصد أن المؤسس ومن خلاله الجماعة حرص على بناء وتطوير نموذج خاص ومستقل وتجديدي تجاوز آفة التقليد والجمود، وأنتج إشعاعا خارجيا باعتباره نموذجا متفردا قابلا للاقتداء.
رابعا- ترسيخ ثقافة التواصل والحوار
تحرص جماعة العدل والإحسان على إيلاء ورش التواصل والحوار الأولوية والعناية اللازمة في مختلف برامج عملها، حيث ظلت الجماعة ترفع شعار الميثاق والحوار في بياناتها، وضمن أهدافها، وما فتئت تؤكد عبر جميع هيئاتها على مبدأ التواصل والانفتاح، تماشيا مع طبيعة رسالتها التي تقتضي التواصل الدائم والوضوح المسؤول والحضور المجتمعي الفاعل، وتعزيزا لمبدأ الشراكة السياسية، وقيم التعايش مع الآخر، واحترام قناعاته، لكون عملية التغيير مسؤولية الجميع؛ مؤكدة موقفها الراسخ استحالة استفراد طرف سياسي أو تيار بعينه بله قدرته على تحمل أعباء التغيير وبناء غد الحرية والكرامة والعدالة.
وبالرجوع لمختلف كتب الإمام المؤسس نجده رحمه الله يستعمل في مكتوباته ومسموعاته ومرئياته لغة حوارية تواصلية تمتح من جهاز مفاهيمي دقيق ينبض سلمية ورحمة، بأسلوب مزج بين القوة واللاعنف اللفظي، ورغم ذلك لم تكن لغته محايدة ولا مهادنة، كما لم تكن كلماته تحتمل عدة معاني ملتبسة.
لقد دعا رحمه الله باكرا إلى الانفتاح والتواصل، وأسهم في ترسيخ ثقافة الحوار، وحذر من الكراهية والانغلاق والتقوقع على الذات. وخصص لذلك كتبا حوارية مع مختلف فضلاء الوطن، وحرص على إنجاح العديد من المبادرات التواصلية التي انخرطت فيها جماعة العدل والإحسان، سعيا لتنزيل قيم الحوار وتوسيع دائرة المشترك، نحو بناء إرادة إنسانية حرة بنفس تشاركي.
ومن بين القواعد التواصلية التي تربى عليها شباب وعموم أعضاء الجماعة حتى أضحت محفوظة عندهم وحولوها إلى سلوك وممارسة:
– قاعدة: ”حوارنا مع عمار الساحة السياسية ضرورة سياسية وتبليغنا مقالة الإيمان واجب دعوي“ [13].
– قاعدة: ”لا يفيد أن نرفض الحوار مع من يطلب الحوار، ولا أن نستعلي بالإيمان عن الجلوس إلى مناقشة، ولا أن نغتر بالحق الذي ندعو إليه إن عجزنا عن تبليغ حكمة الحق والبرهنة عليها“ [14].
– قاعدة: ”لا ينبغي أن نؤجل الحوار، ولا أن نستعجل الوفاق“ [15].
كما حرصت الجماعة على توجيه شبابها وعموم أعضائها إلى القطع مع إرث المذهبية الحدية المنغلقة والطائفية العصبية الإقصائية، فحفلت نداءاتها بمبادرات تقريبية وتأليفية لقلوب وجهود الأمة الإسلامية، ونادت بمد اليد إلى كل النفوس المتآخية في الإنسانية تبليغا لرحمة الإسلام وعدله.
ومستند الجماعة في هذه النظرة الشمولية للرحمة العالمية قول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: ”الأصل في تعايش أهل الأرض الأمان. والاستقرار العالمي مطلب لنا عزيز. ذلك أننا لنا دعوة نريد أن نبلغها للعالمين. وهي دعوة رفق لا عنف، وصدق لا نفاق، وترغيب لا ترهيب، واختيار لا إكراه. وأفضل مناخ لتبليغ رسالتنا هو السلام في العالم والتواصل والتعارف والرحمة“ [16].
خلاصات
· إن من أهم إنجازات الأربعين سنة الماضية، الصمود والاستمرارية، فأن تستطيع جماعة العدل والإحسان الصمود أمام مختلف الإغراءات وتثبت على مبادئها، وتستمر في مشروعها، وهي تتلقى الضربات المتتالية من المخزن الذي روضت آلته القمعية والريعية ”صناديد المعارضة“، فهذه واحدة من أهم الإنجازات التي يحق لشباب العدل والإحسان وعموم أعضائها الاعتزاز بها.
· تؤكد جماعة العدل والإحسان على مركزية التربية في بناء الإنسان المتوازن، لأنها تعتبره العنصر المحوري في المشروع التغييري؛ التربية المتكاملة الشاملة التي تعرج بالإنسان نحو مقامات الإحسان ليعرف الله عز وجل حق معرفته، وتسمو بروحه إلى درجة النبل والرحمة والرفق.
· السلمية ونبذ العنف في المشروع التغييري للجماعة ليست تكتيكا مرحليا، بل هي مبدأ راسخ وضرورة استراتيجية. فهي ضرورة إسلامية من حيث الحاجة إليها في توحيد جهود الأمة، التي أضناها التمزق والصراع، وهي ضرورة إنسانية من حيث حاجة البشرية إلى قيم الإسلام وعدله ورحمته.
· العنف والكراهية ينبتان أكثر في بيئة الاستبداد والحرمان والفقر والتهميش، ومدخل علاج ذلك كما يقترحه المشروع التغييري لجماعة العدل والإحسان، بناء وطن الحرية والكرامة والعدل، وطن العمران الأخوي والسلم والتكافل والعيش الآمن.
· الحكمة والرحمة والرفق والمرونة التي تدعو لها جماعة العدل والإحسان؛ لا تعني الاستسلام والذل والرضى بأنصاف الحلول والتنازل عن المبادئ والثوابت. وإنما تقصد الجماعة بذلك سلمية الرشد والقدرة على الإنجاز والتنفيذ برحمة الإقناع لا بعنف الإكراه، يقول الإمام المؤسس: ”إننا ندعو إلى الرفق في عملنا الإسلامي، لكن نحب ألا يفهم عنا أننا ندعو للخمول والاستسلام والضعف. إن القوة الفاعلة البناءة هي القوة السائرة في ركاب الإرادة الواعية، ولا يمكن أن يكون للأمة الإسلامية المنبعثة وجود ولا استمرار بلا قوة“ [17].
· الاستقواء بالخارج أو التعامل معه كيفما كان نوع هذا التعامل، من الخطوط الحمراء بل من محرمات العمل التنظيمي عند جماعة العدل والإحسان، لأنها علاوة على أنها تدرك مساوئ الارتهان للخارج والاستقواء به، فهي تحرص على أن تبقى جماعة مغربية أصيلة مستقلة، بعيدة عن التبعية لأي مدرسة أخرى، في زمن كان فيه النسج على غير منوال ضرب من المغامرة والعزلة.
· العديد من شباب المغرب مدين للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ولمحاضن الجماعة التربوية والتعليمية بدَيْن خاص، لما منحوهم من نظرات فاحصة من أعالي التاريخ، وتوجيهات قيمة حولوها إلى ممارسة سلمية أنقذتهم من أتون التطرف والعنف.
· إن الاحتفاء بالطليعة المؤسسة يرنو عامة إلى استمرار المشروع العدلي الإحساني ودوام نفعه في الأمة والإنسانية جميعا، فذاكرة المؤمنين وذكراهم نقش في سجلات التاريخ لا تنسى، بل تكون دواما للأجر والثواب والمدد والإمداد، مع ما يصاحبها من أفراح بكرم الله تعالى، ورغم ما يكتنفها من أتراح بحكمته وعظيم تدبيره سبحانه. ألا له الخلق والأمر. كما أن من معاني إحياء ذكرى التأسيس إعمال أدوات النقد والتقييم والتقويم لمسار حافل، بما له وما عليه، في ظروف سريعة التطور والتغيُّر، وكلنا آذان صاغية للرأي الموافق والمخالف. نرجو من الله الكريم الوهاب أن ييسر من يهدي لنا عيوبنا لتكون الهدية نبراسا للتحسين والتجويد والإحسان وما التوفيق إلا من عند الله العلي الحكيم [18].
· أربعون سنة هو المعدل الكافي لبداية التأريخ للجماعة، للوقوف على المفاصل الأساسية والمنعطفات ومختلف المسارات في تاريخ الجماعة، وتكوين صورة واضحة عن ظروف النشأة والتأسيس والانتشار؛ لتلاقح الأجيال، وربط اللاحق بالسابق، ولحفظ الذاكرة وتحصينها باعتبارها من أهم مرتكزات الوعي الجمعي بكل أبعاده؛ التربوية، الفكرية، السياسية، الشبابية، الاجتماعية، والحقوقية. ويكتسب هذه التأريخ راهنيته وأهميته، إن تـمَّ التنقيب في تاريخ الجماعة برواية جيل التأسيس، وهو أمر يعطي قيمة كبرى للحدث.
· إن هذه الذكرى المباركة بقدر ما تفتح من آفاق، فإنها تطرح عدة تحديات وأسئلة عديدة تفرض نفسها على كافة المستويات؛ خاصة الشبابية منها، وهي أسئلة لن تجد مدخلا للإجابة عنها إلا بالوفاء لمشروع الإمام المجدد رحمه الله، وتجديد للعهد، انجماعا للقلوب والإرادات بذلا وعطاء ويقينا متجددا في موعود الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي فهما ووعيا بالمهمات، واستيعابا لواقع التحديات واستشرافا موقنا لمستقبل دعوة الله عز وجل.
[1] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص 25.
[2] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 71.
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 80.
[4] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 191.
[5] محمد عبادي، الكلمة الافتتاحية لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان، منشورة على قناة الشاهد على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=z7mjw_IY5s8، بتاريخ 23 أكتوبر 2022.
[6] عمر أمكاسو، المنسق العام لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان ومسؤول مكتبها الإعلامي، العدل والإحسان المغربية .. الرسالة والأهداف والتداعيات، مقال منشور على موقع ”عربي21“، بتاريخ 27 أكتوبر 2022.
[7] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 438.
[8] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 444.
[9] عبد السلام ياسين، الاسلام والحداثة، ص 231.
[10] عبد السلام ياسين، الاحسان، ج 2، ص 274.
[11] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، ع 1، السنة 1979م، ص 30.
[12] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، ع 1، السنة 1979م، ص 31.
[13] عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص 235.
[14] عبد السلام ياسين، الإسلام والقومية العلمانية، ص 129.
[15] عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، ص 41.
[16] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ص 215.
[17] عبد السلام ياسين، الاسلام غدا، ص 116.
[18] عمر أمكاسو، المرجع السابق.