إعلان ترامب عن التوصل لاتفاق إماراتي – صهيوني شامل يتيح تطبيع العلاقات بين البلدين ليس أمرا مفاجئا. فالخطوات المكثفة التي تسارعت، أثناء ولاية ترامب تحديدا، من خلال الترويج لصفقة القرن والمشاركة في ورشة المنامة مع تبادل الزيارات بين ناشطين من الطرفين، ناهيك عن أداء وسائل الإعلام المرتبطة بالإمارات حيث اتسمت تغطيتها بعدائية شديدة للملف الفلسطيني ولثوابته، كل هذا وغيره أكد أن الإعلان الرسمي عن اتفاق سلام بين الإمارات والكيان الصهيوني لن يكون إلا مسألة وقت.
ومع ذلك فإن هذه الخطوة أثارت حالة من الصدمة ومن الغليان في أوساط الكثيرين وهذا أمر مفهوم، ذلك أن توقع حدوث المصيبة لا يعني أن وقوعها بعد ذلك لن يحدث انفعالا وألما. فرغم عدم فجائية الفعل الإماراتي إلا أن فداحة الخسائر المرتقبة بسببه لن تكون يسيرة لا سيما أن الأمة مكبلة ومشلولة وغير مهيأة حاليا لمجابهة الوضع الذي سيخلقه. فمع كل اتفاقية مع الكيان الصهيوني تخسر القضية الفلسطينية مساحات كبيرة من الدعم ويتم تضييق الخناق عليها عربيا وحتى دوليا أكثر فأكثر، فمنذ كامب ديفيد التي دفعت مصر إلى تغيير موقعها من الصراع من موقع المساندة للحق الفلسطيني إلى التماهي التام مع الجانب الصهيوني، إلى أوسلو التي كبلت حركة الفلسطينيين ونقلت قيادتهم من هم التحرير إلى هموم تدبير معيشتهم إلى وادي عربة وغيرها من التفاهمات التي كانت كلها وبالا على القضية الفلسطينية.
لا ينبغي الاستهانة بهذا الاتفاق، فحتى لو كانت العلاقات قائمة أصلا بشكل غير علني، فإن الاعتراف يترتب عليه واقع جديد يصعب تجاوزه، بدليل أن كل البلدان التي عقدت اتفاقيات مع الطرف الصهيوني قد تغير موقعها بالكامل، فرغم أن بعضها كانت له سابقة في التعامل مع الصهاينة في بعض المستويات إلا أنه كان يصطدم دائما بكوابح تفرمل حركته، فيما أطلقت تلك الاتفاقيات يده لفعل ما يشاء في هذا الشأن دون رادع خصوصا إذا استحضرنا سياق المرحلة الراهنة الذي يمضي في اتجاه التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، والذي يختلف عن الموجات التطبيعية السابقة التي كانت تزعم الحرص على الفلسطينيين، والتي حاولت إغواء الجماهير الفلسطينية والعربية بخياراتها من باب الادعاء بالبحث عن حلول للمشكلة الفلسطينية، بخلاف النفس العدواني للمطبعين الجدد الذين ينحازون للرواية الصهيونية بالكامل.
لا يلتفت للغطاء الذي أريد به تبرير الاتفاق الإماراتي الصهيوني المتعلق بإجبار الكيان عن إيقاف ضمه للأراضي الفلسطينية لقاء تطبيع العلاقات معه، فتلك مسرحية لا تنطلي على عاقل، فكيف سيلتزم طرف تمرد على قرارات دولية ونقض اتفاقيات وقعها بنفسه بعهود شفهية أعطاها لكائنات ضعيفة أدارت الظهر لقضية أمتها المركزية؟ هذا إن افترضنا أن موضوع الضم طرح من الأصل، ففي أحسن الأحوال جرى الحديث عن تأجيل الضم وليس إلغاؤه حسب نتنياهو نفسه. ثم إن هذا الموضوع يناقض دعاية الإماراتيين أنفسهم ومن ينسج على منوالهم الذين يعتمدون على تبرير تحولهم بدافع المصلحة القطرية متحدثين عن ضرورة التخفف من ثقل التركة الفلسطينية، فلماذا يحشرون أنوفهم بعد ذلك في أمورها هم الذين اكتشفوا فجأة وداعة الصهيوني مقابل “جحود الإنسان الفلسطيني” حسب ما تكرر أسطوانتهم المشروخة هذه الأيام.
الواقع ألا قيمة لكل الحجج التي يقيمها القوم، فالمسألة باختصار هي تنفيذ “الإملاءات الترامبية” التي لا يملكون غير الانصياع لها، وإلا فالغضب الأمريكي سيسحب الغطاء عنهم وعن وحشيتهم تجاه معارضيهم وتجاه عموم شعوبهم في صفقة وضيعة تعرض فلسطين في سوق النخاسة لقاء الحفاظ على العروش وعلى المناصب والامتيازات، لكنهم يحاولون الإيحاء بأن مواقفهم الأخيرة نابعة من قناعة ذاتية تستجيب لحاجات بلدانهم، ملصقين تخلفهم المزمن وفشلهم الذريع في تسيير بلدانهم بالقضية الفلسطينية التي قاموا باستغلالها أكثر من خدمتها طيلة عقود الصراع مع الصهاينة.
خطورة الخطوة الإماراتية أنها مقدمة لخطوات مماثلة تستعد أنظمة أخرى لإجرائها خلافا لخطوة السادات التي عزلته عن محيطه وعن شعبه قبل ذلك، وهو ما يجعل من ردة الأنظمة العربية الشاملة تجاه قضيتها المقدسة اليوم تشكل تهديدا حقيقيا على مناعة المجتمعات العربية لا سيما بعد الحملات الاستئصالية الشرسة التي طالت تيارات اعتبرت تاريخيا حائط صد تجاه كل المحاولات التطبيعية السابقة، حتى أصبحت الساحة جاهزة اليوم في عدد من البلدان لبث دعاية الأنظمة المطبعة، بالذات في الدول التي تعاني من التصحر السياسي.
المؤكد أن سلخ الأمة العربية والإسلامية عن مقدساتها المحتلة أمر غير وارد على المدى البعيد، ذلك أن كل هذه المؤامرات لن يكون مصيرها إلا الرفض والمقاومة، فمكانة فلسطين في وعي كل عربي ومسلم أشد رسوخا مما يعتقد أولئك المغامرون الذين يظنون أن بإمكانهم اغتنام لحظة شرود استثنائية تعاني منها مختلف الشعوب العربية والإسلامية لتثبيت السيادة الصهيونية على الأرض الفلسطينية، لكن هذا الأمر سيستنزف منها جهودا هائلة في الدفاع عن آخر الحصون المتمثل في الحفاظ على وعيها بالقضية، بدل التوجه إلى تقديم دعم حقيقي للمرابطين في بيت المقدس وأكناف المقدس.