ما بعد العراق 1/3

Cover Image for ما بعد العراق 1/3
نشر بتاريخ

قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية -بما فيها واشنطن- وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالة من الفزع والذهول !.

الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع، ويهتفون ضد الإدارة، ويتهمونها بممارسة جرائم حرب وإبادة، وبتضليل الشعب، وبانتهاك وخرق القوانين ومصادرة الحقوق.

مجموعة من السجناء تقتحم السجن، وتنضم إلى الثوار .

مدمنو مخدرات يرفعون لافتات تقول:”كفى ترويعاً للشعب كفى ترويعاً للآمنين” .

محتجون يدمرون تمثال الحرية، ويضعون عليه خرقة مكتوب عليها : انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجهوكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم .

أيدٍ خفية تحرص على الفوضى والدمار؛ نكاية بالإدارة وإظهاراً للشماتة بها .

خمسون ألفاً من اللصوص في سان فرانسيسكو يتجولون في الشوارع .

هل أنت في حلم لذيذ ؟!

هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال هو انعكاس لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.

لقد هجم عليّ البارحة موجة عارمة من الحزن والكآبة، لا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزل عنها وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.

يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني

يا دجلة الخير ما يُغليك من حنق في مائك الطهر بين الحين والحين

ما إن تناهت سياط البغي ناصعة على القرى آمنات و الدهـاقين

ووالغات خيول البغي مصبحة والناس حولك عـدوا بالمـلايين

أدري بأنك في حزن وفي لغب ويفزعون إلى حـدس وتخـمين !

يرون سود الرزايا في حقيقتها الوداع يا بغداد، يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد، يا منزل القادة والخلفاء والمحدثين والفقهاء والزهاد والأتقياء والشعراء والظرفاء، يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنيا فيها من كل شيء شيء .

الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام، ويا منارة التاريخ، ويا منبر الحضارة.

منذ أوائل الألف الخامس (قبل الميلاد) تاريخ موغل في القِدم، شهد سهل الرافدين قفزة مهمة في التاريخ، بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمن كانت فيه شبكات القنوات معجزة من معجزات الري في العالم .

مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى، السامريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أكبر إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون، وكان الفتح الإسلامي درة العقد في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق عاصمة للخلافة مئات السنين.

بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عهد الرشيد، ولذلك كانت تسمى (عاصمة الرشيد)، كما تسمى دار السلام والمدورة والزوراء وبغداد.

التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 656هـ انطفأت تلك الشعلة الوهاجة، وذلك عندما أقبل التتار -بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان- واستباحوا بغداد، واصطبغت دجلة بلون الدم؛ لكثرة ما ألقي فيها من الجثث، كما اصطبغت بلون الحبر؛ لكثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهاية لمجد وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد، واغتيلت حضارة من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام.

توجيهات قرآنية

أولاً : يقول الله عز وجل: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”[الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالا بالكلية، وقد يكون انتكاساً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، والله تعالى- كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام-: ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) رواه مسلم، فللأمم آجال كما للأفراد، ولها نهوض وهبوط، ولها شباب وهرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فإنها أمة تمرض، ولكنها لا تموت.

ثانياً: “إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ “[آل عمران:140-141] أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا ذل ولا عز، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، كما يقول بعض الشعراء من أبناء الخلفاء:

لنا رغبة أو رهـبة عظماؤها

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت شــــــدائد أيام قليل رخـاؤها

فلمــــا انتهت أيامنا علقت بنا فصار علينا في الهموم بكاؤها

وكان إلينا في السرور ابتسامها رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها

وصرنا نلاقي النائبات بأوجه علينا الليالي لم يدعنا حـياؤها

إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ، كما سطر (فوكوياما) في كتابه المشهور، ونظريته الذائعة. ولعلنا نقول : بل هو تاريخ النهاية، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين : “أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ”[إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية، ثم أتعجب وأقول: سبحان الله منزل القرآن، كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟! ثم رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم وغطرستهم وغرهم من ربهم الغرور، فصاروا يتكلمون بأن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.

هذه الوثبة العالية للقوة الأمريكية هي من المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” وهي نتيجة للاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، فاكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا، حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.

إن انتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، وعندما نرى ذلك الجندي المتغطرس يظهر قوته، ويرفع علَمه على أرضنا، نشعر بالغيظ والمقت، لكننا ندري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعة من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبة وغفلة من الأطراف الأخرى.

فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصولوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصار حياتي علمي تقني اقتصادي إداري سياسي وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة، ولهذا فإن في قول الله عز وجل: ” وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ”[البقرة:251] دليلاً على ذلك،ودليلاً على أن ما يصنعه الله في أرضه وعباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً ولابد أن يكون فيه جوانب من الخير والحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على بعض العباد خصوصاً في وقت الأزمات، حينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، ولكن المؤمن يظل راضياً، مدركاً أن وراء الأمر -من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره- ما يحمد الناس له العواقب.

رابعاً: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”[آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حين نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها هو جزء قليل مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفى قبحها، لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أوتينا من قبل أنفسنا، وهاهو ربنا سبحانه وتعالى يقول للمبشرين بالجنة : ” قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة والدماء نازفة والآلام حية، هو من عند أنفسنا، علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى الله سبحانه وتعالى بتوبة صادقة على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.