يقول الله عز وجل لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم صدق الله العظيم 1 .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على المؤمنين بشهادة الآية الكريمة والخلفاء الراشدون من بعده.
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي “عمّاله” قائلا: “إِنِّي لَمْ أُسَلِّطْكُمْ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلا عَلَى أَبْشَارِهِمْ، وَلا عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَلا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُكُمْ لِتُقِيمُوا فِيهِمُ الصَّلاةَ، وَتَقْتَسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَتَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ..” 2 وكذلك كان الخلفاء الراشدون وكل راشد من بعدهم.
سنة الحرص على صالح المسلمين وغيرهم ممن هم تحت الولاية همّ يسكن قلب المسؤول مخافة التقصير، همّ يجعله ينكر ذاته للاهتمام بأمور من يتولاهم، همّ ناتج عن مراقبة الله عز وجل في السر والعلن.
الحرص على “الصالح العام” همّ لا تنتجه الدساتير ولا ترسانة القوانين ولا زخرفة الخطب والنشرات، إنه همّ ينادي من أعماق الإنسان فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا” صدق الله العظيم 3 .
كان سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه قبل توليه أمر الدولة يعيش حياة بذخ ويلبس الحرير… ولما تولى أمر الدولة لبس الخشن وتورّع عن إنارة فتيلة تعود لبيت مال المسلمين. حرص على بناء دولة العدل والكرامة والمساواة بين الجميع والمؤاخاة والرحمة والرفق واللين والتلاحم بين الجميع، حرص على ذلك بصدق وأمانة، وقوّة إيمان وخشية لله وحده وورع. تلك هي المؤسسات التي بنى بها الدولة، مؤسسات المعاني لا الأواني، مؤسسات “المواطنة القلبية” كما يسميها الأستاذ عبد السلام ياسين، حيث يقول رحمه الله المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمين هي أم الخصائص في العمران الأخوي) 4 . ويقول الدكتور ادريس مقبول المواطنة القلبية هو المعنى الذي يجسد به الأستاذ عبد السلام ياسين طبيعة العلاقة الروحية التي يمكن أن تربط بين الإنسان المؤمن بأخيه الإنسان من جهة وبالمكان أو الفضاء الذي يمكن أن يجمعهما من جهة أخرى) 5 .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدمار أوربا واليابان، أراد هؤلاء بناء دول ومعسكر قويّ وفقا للفلسفة الغربية المادية، وبناء إنسان غربي وفق نفس الفلسفة، فسعوا لذلك سعيه وسخروا كل ما يملكون لبناء تلك الدولة، فكانت تلك الدولة من ذلك الفرد وله، وكان ذلك الفرد من تلك الدولة ولها؛ الكل في نسق واحد رغم الاختلافات الشكلية الظاهرية في أشكال الحكم وطرق تدبيره.
فهذه الدول عندما سلكت مسلك الانتخابات منذ عهد الحضارة اليونانية سلكته من أجل أن يختار الفرد من سيقوم بمهام الدولة ويكون حريصا على المحافظة عليها وعلى مؤسساتها وعلى ضميرها الجماعي ويعمل على تطويرها وفق ذلك الضمير وتلك الفلسفة.
الأصل في الانتخاب إذن هو اختيار من يحرص على الدولة ومؤسساتها والنسق الذي يؤطرها سواء كان هذا المنتخب رئيسا أو برلمانيا أو غيرهما.
في الدول الديمقراطية يشارك الفرد في الانتخابات للحفاظ على ذلك البناء الذي يعتبر الفرد محوره، يشارك فيها من أجل الحفاظ على الدولة والحفاظ على وجوده ومصالحه الشخصية والعامة التي لا تتحقق إلا في إطار الدولة. يشارك المواطن في الانتخابات لاختيار مرشحين همهم الحرص على الصالح العام، وعلى مصالح منتخبيهم.
في بلدنا كان الغرض ولا زال بناء”دولة” منهم ولهم وإليهم، وهندسوا تبعا لذلك لبناء فرد يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فرد لا هو منهم ولا هم منه، فرد لهم ولا شأن لهم فيه ولا في أحواله، سعوا لذلك سعيهم منذ الخمسينات من القرن الماضي، أثّثوا لذلك بالدساتير والقوانين والمؤسسات وكثرة الأحزاب.. كل ذلك لإنتاج إنسان يحسن القبول بالوضع القائم لا يسأل ولا يسائل؟ إنتاج إنسان حده المعاش.
إن شخصنة “الدولة” في فرد أو عائلة وتحويلها لخدمة طرف واحد وتسخير الكل له ومن يدور في فلكه، يتبعه بالضرورة أن تصبّ كل حركة أو سكون نحو ما يخدم هذا النظام، وإلا كان المخالف نشازا وسعيه ردّة عن المألوف و”الإجماع”، ووجبت تبعا لذلك محاربته بشتى الطرق، فالواجب إذن أن يولّي الكل وجهه شطره…
وبالتالي فإن الدستور وما حوى والبرلمان وما وعى والقانون وما طوى ورجل السلطة وما هوى والكل وما نوى يجب أن يخدم النظام أعلاه، والكل مجرد وسيلة ليس إلا لبناء النظام المذكور وخدمته.
في مثل هذه الأنظمة تتحول وسائل الديمقراطية إلى سمّ قاتل للديمقراطية، والانتخابات باعتبارها من تلك الوسائل هي أيضا تحولت في بلدنا إلى سمّ قاتل للديمقراطية، وقتلت أحزابا وقبرت تاريخها النضالي وردمت تحت غبارها بريق أخرى.
هل يمكن للانتخابات أن تفرز منتخبين لهم حرص على الصالح العام ويحملون همّ منتخبيهم في ظل نظام كهذا؟ قد يحدث ذلك، بل هناك من المرشحين والمنتخبين من لهم حرص وصدق عزيمة! لكن هل في ظل نظام لا تتوفر فيه المجالس المحلية وغيرها من المؤسسات إلا على دور وظيفي، ولا سلطة حقيقية لها، في نظام تشكو فيه هذه المجالس من تسلّط رجال السلطة في وزارة الداخلية وتشكو قوة الصلاحيات القانونية الممنوحة لهؤلاء وضعف وضعها القانوني تجاههم، في هذه الظروف هل يمكن لهذا الحرص وهذه العزيمة الصادقة أن تستمر وتؤتي أكلها؟ طبعا في ظل ذلك الوضع القانوني غير المتوازن، زد عليه التسلط والفساد والاستبداد، سيطغى هذا على ذاك ولا داعي لسرد الأمثلة ما مضى منها وما نعايشه..
الانتخابات نشأت في ظل فلسفة ونظام سياسي يقوم على التعددية، وهي وسيلة لإفراز تلك التعددية في الحكم وضمان التوازن بين السلط ومراقبة هذه السلطة لتلك. إنها إذن من صميم ذلك البناء، وبالتالي هل يمكن أن تؤدي للانتخابات هذا الدور في ظل الحكم الفردي؟ هل يمكن لها أن تنتج تعددا في السلط يضمن توازنا بينها؟
عند علماء الرياضيات المفرد مختلف عن المتعدد، وبنيويا لا يمكن أن يتعايش النظام الفردي مع النظام التعددي لأن الأول محوره الفرد واستبداده بالحكم ملكا كان او امبراطورا أو قيصرا.. والثاني يقوم على تعدد السلط وتوازنها -التنفيذية والتشريعية والقضائية- ولا يمكن لواحدة أن تطغى على أخرى وإذا حدث خرج النظام من خانة الأنظمة التعددية.
الانتخابات إذن في ظل النظام الفردي لا يمكن أن تفرز سلطة موازية لسلطة الحاكم الفعلي، وتظل الانتخابات في المغرب كغيرها من المؤسسات مجرد وسيلة لتكريس النظام القائم وتلميعه، يقول الأستاذ عبد السلا م ياسين رحمه الله ليست طموحاتنا محدودة بموعد انتخابي أو تناوب على السلطة، لأننا نعلم أن تغيير حكومة أو دستور معين لا يكفل إلا حل أزمة عرضية إن كفل وهيهات! ولا يستطيع إلا تهوية الجو السياسي ريثما تأكل النظام فرقة أو حزبا معينا إلى الانسحاب في مستراح المعارضة الحزبية ليلمّع صورته) 6 .
في ظل نظام يسعى لجعل كل مكونات “الدولة” مجرد وسائل للحفاظ على كرسي الحكم وعلى الوضع القائم والاستئثار بخيرات البلد، يظل “المواطن” يعيش وضعا بائسا من حيث الحقوق من عيش كريم وتعليم وصحة وأمن وأمان، وشغل، وحق في التعبير الحر والحصول على المعلومة…. وتظل الوعود وعودا منذ “الاستقلال” لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل 7 .
فما جدوى المشاركة في انتخابات لن تزيد إلا تمديدا في عمر الاستبداد واتساع وانتشار الفساد وبقاء الظلم جاثما على صدورنا؟
خلاصة القول إن المشاركة في الانتخابات ليست مجرد تعامل مع الورقة الانتخابية وتزكية هذا الشخص على ذاك أو تفضيل لهذا الحزب أو البرنامج على آخر وإنما هي قبل كل ذلك قبول وتزكية للنظام القائم الذي اتخذها وسيلة لهذا الغرض أو ذاك وجعلها آلية من آلياته.