كُلما أشْهر الحزن سيفه الحاد في وجهها.. تركت ابتسامتها وتَرَجّلَتْ عن أفراحها.. وَلاذتْ بصمت مرير لا يُجزِّئه سوى صدى دمعاتها وهي تصطدم بخدها الواهن..
آه من لوعة الفراق وشدته.. يكاد يعصرها عصرا..
حاولت أن تلوذ بالفرار من وجه الحزن البائس.. وتَنْظر بعين الحق والرضى.. لكن هيهات هيهات لفؤاد كُلِم أن يتعلم الابتسام مرة أخرى.
صعدت درجات المنزل المنْسي.. ووقفت أمام بابه المُعتَّق.. ورفعت يدها بتردد ثم طرقت..
بعد لحظات.. فُتح الباب.
دخلت دون استغراب.. أو سؤال عمّن فتح الباب.. فهي تعلم أن الطَّرْق هو سبيلها الوحيد للفتح. فلا سؤال ولا جواب..
تجاوزت عتبة المنزل دون أن تطأها وهي تبسمل..
عتبة الدار كالسادة الفقراء، تنحني بِذِلّة لخلق الله، تخدمهم وتحنو عليهم رغم غلظتهم وجفائهم ودوسهم الدائم عليها..
هذا ما سمعته.. وصدّقته.. من يومها لم تدس عتبة قط.
ثم دعت ودخلت.
دارت حولها ببطء وهي تُصَعِّد أنفاسها، وكأنها تمتص ما تيسر لها من ذكريات حبيبة إلى قلبها من أركان هذا المنزل.
ما زالت أحاسيسها المفعمة بالحنين تنْضح بالصور.. صورها مع والدها الحبيب..
غاب وما غابت ابتسامته الفيّاضة بالمحبة.. العَبِقة.. شذاها يملأ زوايا المكان.
تذكر كيف كانت تضع رأسها على كتفه الرؤوف.. وهي تحدثه عن أحلامها وأوجاعها وما تغير من أحوالها.. وهو يصغي بأدب وحنان إلى كل ما تقوله أو تصمت عنه.. لا يُبدي أدنى انزعاج من أي شيء تُبديه أو تُخفيه.
كانت نظرتها في وجهه المحبب تكفيها لتتخطى كل ما يحبطها.
كان السند وما زال.
تنهدت بحرقة ورمشت بقوة في محاولة لكَف عبراتها عن التساقط، وسارت نحو مكتبه..
فتحت الباب وولجت الغرفة وقلبها يخفق بانفعال كأنها.. كأنها ستراه هناك، خلف مكتبه ونظراته على عينيه وكتاب ما بين يديه..
شعرت بدفء يكتنفها بمجرد أن دخلت..
حملقت بذهول وهي لا تصدق ما تراه.. إنه حقا هناك خلف مكتبه، كعادته الجميلة يبتسم لها كلما التقت نظراتهما..
يا الله، أهذا واقع أم محض خيال؟
كم هي جميلة أحلام اليقظة!
تبدو واقعا حقيقيا.. تسافر معها إلى كل العوالم والأبعاد.. تتجاوز بها حدود المعقول والممكن، مخترقا أسيجة الصعب والمحال.
لا يبقى معها ذلك الانكماش والتقهقر.. والخوف المزعج من “لا أستطيع” و “لا يمكن”..
إنها الانطلاق نحو الفضاءات الحرة.. حيث تُبَسمِل البسمات وتُكَبِّر وتنهمر كرذاذ الماء مُنبسطا على الوجوه يضيئها.. وعلى الأفئدة ينيرها ويحييها.
وهي السلام يعبر الآفاق مزغردا، ومُبشرا بآلاء الله يعددها.. ويحصيها.. ويُثني على كل مُسبِّح حامد مُعظِّم لأنْعمها.. يسكن أحشاءه، يَعْمرها.. ويغمر ثناياها حبا وانشراحا..
وهي لباس من لا لباس له، ووعاء من لا قِدْر عنده، وجمال من افتقده، وسِرُّ من جهله، وبُشرى من نشب اليأس فيه مخلبه، وغَد من لا حاضر له.
إنها الواقع والخيال.. حين يمتزجان أيما امتزاج ويصبحان كاللؤلؤ والمرجان، كلاهما في غلاوة ونفاسة..
وأفاقت على الصوت الحنون يداعب مسامعها..
حملقت فيه بذهول سرعان ما تحول لمحبة وشوق عظيمين. ندت عن شفتيها ابتسامة دامعة ونادت بحنو شديد: أبي..
تعانقا..
شعرت بذلك الدفء الذي لطالما ملأها وهي بين ذراعيه الرؤوفتين..
أخذت في تقبيله: بين عينيه، وعلى وجنتيه ويديه وكتفيه، وانحنت لتقبل قدميه.. وكذا البقعة المباركة التي يقف عليها.. بل لتقبل كل نسمة هواء لمسته، وحطت بأمانها عليه..
لكنه أمسكها قبل أن تبلغ الأرض ورفعها ببطء مبتسما.. وهو يقول بصوته العذب المغرد:
لا يا ابنتي.. يكفيك انحناء وانكسارا.. شُدّي قامتك وارفعي هامتك وتَجلدي.. إنك أَمَة لله قبل أن تكوني ابنتي وستبقين أمة له سبحانه ما لم تنسي.. هو الحي الباقي.. به تعلقي.
دوت كلماته في نفسها كالإعصار..
بدت لها شديدة لا تتحمل ثقلها.. فأجهشت بالبكاء وهي تتمرغ بين ذراعيه.. كأنها تطلب مواساته وتسأله أن يرأف لحالها ويعود معها إلى حياتهما السابقة..
ربت على ظهرها مداعبا بخفة ورقة، وهو يهمس في أذنها: لا بد من اللقاء.. فصبرا جميلا.. لا بد من اللقاء.. فصبرا جميلا.
ظلت هناك بين أحضانه مدة طويلة حتى هدأت نفسها وسكن روعها وعادت لرشدها..
أفلتت يديها وابتعدت عنه قليلا لتتمكن من رؤية وجهه البشوش، وتتملى من تلك الملامح الطيبة، كأنها أقحوان ترْشح منه رشْحا.
وأخيرا قالت وهي تنظر إلى عينيه دون أن ترمش: العفو منك يا والدي الحبيب، إنما هي الأشواق عَبثت بي، غالبتها كثيرا، لكنها تمَكَّنت مني حتى لم أجد منها فكاكا.. فاستسلمت لزمهريرها وتركتها تفعل فيَّ أفاعيلها.. لكن كن على ثقة يا والدي الحبيب أني لن أخذلك، ولن أخيب ظنك فيَّ.. وسأصبر الصبر الجميل.. وأعضّ على ما مددتني به من حب وقوة.. ولن أفرط بهما بإذن الله تعالى..
هو سبحانه العزيز، به تَعلُّقي وإليه توجُّهي وعليه كل اعتمادي وتوكلي..
هو الغاية كما علمتني.. هو المطلب العزيز الذي تهون دونه كل العقبات.
أبي.. أي أبت! إنك تعلم ما يُكِنّه هذا القلب العليل لك.. وتعلم وَقْع بُعدِك عني وشِدّته علي.. فاعلم أنك وإن غاب جسدك فروحك روحي ودماؤك غزلان ترتع في واحات قلبي.. لا يغيرها ما تغير ولا يعكر صفوها مُعكر..
فاهنأ حبيبي برضى المولى عز وجل.. وصحبة خير الخلق عليه أزكى الصلاة والتسليم..
ما إن أتمت كلامها، حتى غاب طيف والدها الحبيب وما غابت بسمته.
جمعت شتاتها ولملمت أغراضها.. وتوجهت نحو الباب وهي توزع نظراتها على كل ركن من أركان المنزل الحبيب.. تُودعه إلى حين.