1. التربية الإيمانية الإحسانية خطوات أولاها خطوة “الصحبة والجماعة”
ليس هم هذه المقالة حديث دقائق المعاملة القلبية وما يرتبه الشوق إلى حبيب الحق صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فيوضات، فلذلك أهله ورجاله، ومنهم ما عبر عنه الإمام في تفاصيل كتاب “الإحسان” وكتاب “جماعة المسلمين ورابطتها” وكتاب “القرآن والنبوة” وغيرها من مكتوباته ومسموعاته ومرئياته، لكن الهم هنا بيان مكانة محبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صرح البناء التجديدي للمؤمن السالك على طريق الجهاد العمراني إلى أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة طلبا لوجه الله تعالى، وفوزا برضاه يوم يلقاه حيث لا ينفع لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وحيث المرء مع من أحب.
بعنوان “محبة رسول الله هي العروة الوثقى” جَمّل الإمام عبد السلام ياسين الفقرة الثانية من فصل “الصحبة والجماعة” من كتاب “الإحسان”، وسَبّقها بفقرة أولى بعنوان “حب الله قطب رحى الدين”.
وفي المنهاج النبوي رتب شعب الإيمان تحت نفس الخصلة، وعند عرضه الفقرات العشر المكونة للمضمون الإحساني لهذه الخصلة الأم “الصحبة والجماعة” في كتاب الإحسان ختم بالحديث عن شعب الإيمان المندرجة تحتها المكونة لأساسها الإيماني.
قال: “جمعت من شعب الإيمان تحت خصلة “الصحبة والجماعة” إحدى عشرة شعبة يكون مجموعها نسيجا لأخوة في الله، ورداء يدخل في كنف رحمته القاصي والداني من الأمة. إن شاء الله. تتسلسل هذه الشعب الإيمانية التي يحافظ على حياتها تعاطف أعضاء الجماعة تحت نظر ربانية القيادة وكمالها كما يلي: محبة الله ورسوله، الحب في الله عز وجل، صحبة المؤمنين وإكرامهم، التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خُلُقِه، التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق، الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه، القِوامة والحافظية في علاقة الزوجين، إكرام الجار والضيف، رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس، البر وحسن الخلق.
هذه الشعب من شعب الإيمان، وسائر شعب الإيمان البضع والسبعون، ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يتنكبها، وإلا كان كمن يبني على غير أساس. إن كان القوم في ماضي الانزواء والانطواء قعدوا أحلاساً في بيوتهم وزواياهم وتكاياهم خفيفي الحاذ لا حقوق عليهم لأهل ولا ولد ولا جار ولا لإصلاح بين العامة والجمهور، فإن جند الله القادمين على الخلافة الثانية جماعة، القادمين على ربهم فرادى في دار الكرامة، لا مناص لهم من اقتحام العقبة النفسية الأخلاقية الاجتماعية، يخالطون الناس لأن “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” كما جاء في الحديث، ويبلغون الدعوة للناس، وأبلغ الدعوة أن يكونوا نموذجاً صالحا يسعى على قدميه في المجتمع، يُعلن بالمثال والاقتناع واللزوم عن أخلاق الإيمان، وجدية المؤمنين، وصدقهم، ولين جانبهم، ودماثة أخلاقهم، وأدائهم للحقوق، وزيادتهم الإحسانَ والخدمةَ والفتوَّةَ والتَطَوُّعَ على النِّصاب الواجب شرعا. لآلِئُ أخلاقية ما أبهاها وأقواها إن انسلكت في سلك حب المؤمنين بعضهم بعضا في الله!” 1.
فيلاحظ أن هذا الصعود إلى قمة إعادة بناء نظام العلاقات كلية داخل المجتمع المسلم وفي علاقته بغيره من المجتمعات إنما يتحقق بقيامه على أساس حب الله ورسوله وما يتفرع عنه من حب المؤمنين ومن معاني الحب في الله والبغض في الله.
هذا الصرح من البناء الممتد ارتباطا بالفرد إلى الآخرة وارتباطا بالجماعة إلى قمة العقبة في إحياء الأمة وقيامها بوظيفتها التاريخية هو ما يفصله علم المنهاج النبوي الكاشف لمرآة النبوة المظهرة لحقيقة الصرح وماهيته وأفقه.
حياة هذا الصرح يحافظ عليها “تعاطف أعضاء الجماعة تحت نظر ربانية القيادة وكمالها”.
2. رسول صلى الله عليه وعلى وسلم المثل الكامل
“ليكن بلاغنا الإسلامي، بعد كلمة لا إله إلا الله التي يفسرها القرآن، مشبعا بالحب لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، مفعما بالتقدير لمكانته عند الله عز وجل وبالاقتناع بعصمة سنته وقيادته. فطالما طعنوا في الشخص الكريم ليوهنوا في قلوبنا حب من جعل الله حبه مقرونا باتباعه وتعزيره وتوقيره ونصرته وفدائه بالمهج. والأدهى من ذلك أن من المخربين من هم أبناء الإسلام ودعاته، ورثوا جفوة الأعراب وجفاء من لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقُوا على إسلام حرفي. ما كان صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، وما طلب إلينا أن نفضله على الرسل. لكن الله تعالى أمرنا بالتأسي به وعلمنا مكانته في مثل قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الفتح، 10).
من كانت مبايعته هي مبايعة لله، ومعاهدته معاهدته، وكان المبلغ عنه، وكان حبيبه كما جاء في الأخبار الصحاح، وكان خليفته في الأرض، وكان المشرع في دين الله، يوحى إليه من لدن الله، ويعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى حيث لا يبلغ مخلوق حتى الملك المقرب، فأنى لنا بالفلاح إن لم نحبه ونوقره ونتبرك به ونتقرب إلى الله عز وجل باتباعه ومحبته والصلاة عليه؟” 2.
3. حبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم رزق عظيم ومقام كريم
“الحُبُّ لله والحب في الله، رزق يرْزقه الله من يشاء، لا يفيد في ذلك تفعل العبد إلا أن يدعوَ ربه. عن عبد الله بن يزيد الخطيمي الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: “اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك. اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي فيما تحب. وما زَوَيْتَ عني مما أحِبُّ فاجعله فراغا لي فيما تُحب”. رواه الترمذي وحسنه.
وأعظم الرزق بعد حب الله حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حبه الشريف مقام يرفع الله إليه العبد المختار. وهو حب عميق في قلوب الرجال يستفيض منه العامة هذه المحبة للجناب النبوي التي يعبرون عنها بالمحافل والمواليد، وهي مناسبات خير لا شك ما تُجُنِّبَتِ البدع.
حبه الشريف صلى الله عليه وسلم علامة على صدق المريد وجه الله في طلبه، وعَلَمٌ من أعلام النصر على طريق السلوك إلى الله” 3. “وإنَّ معين هذه الحياة حب الله ورسوله. فمتى غابت هذه الشُّعبة العظمى من شعب الإيمان من حياة المسلمين هوَوْا في دَرَكات العَمَاية.” 4..
4. حبه صلى الله عليه وعلى آله من حب الله؛ فلا خوف من الشرك
“إن تمييز الله نبيه عنا لا يهدف لرفعه فوقنا رفعا يبعده عنا، لكن يهدف لتمكين هيبته في نفوسنا وتعميق حبه في قلوبنا. وكما أن تَعَالِيَ المولى سبحانه وتقدُّسَهُ لا يجعله بعيدا عن عباده بل يبقى قريبا، فكذلك هذا الرجل الذي لا يَصفو حبنا له من أكدار البشرية لو بقي في أعيننا واحدا من بعض رجالنا. وحبه صلى الله عليه وسلم من حب الله. ومِن حب الله والتعلق الدائم به يفيض الحب على رسوله بالإضافة والتبعية.
فمهما توغل حب العبد المصطفى في قلوبنا فسيبقى حبا مضافا. ولا خطر من الشرك كما يتوهم أهل اليُبْسِ والجفوة، عافانا الله.
حب الله ورسوله ليس عاطفة -وهذه كلمة محدثة تترجم لغة بشرية- حب الله ورسوله حركة قلبية كأخواتها من معاني القلب والغيب: الرحمة والسكينة والإيمان والإحسان وما إليها. أما الغرام، الذي يعبر عنه بكلمة الحب وهي شريفة أنزلها الاستعمال الدارج عن مكانتها، فهو حركة نفسية. وتشترك الانفعالات البشرية في التسمية، فيكون للمؤمن والجاهلي فرح وغضب، حب وبغض، وسائر ما تعتلج به الأنفس. لكن المؤمن وحده المختص بحاسة القلب يفرح بالله، ويغضب لله، ويحب في الله، ويبغض فيه. أما الكافر المطبوع على قلبه فلا يعدو الانفعالَ النفسيَّ. فمن أخص خصائص المؤمن حياةُ القلب، لا يعرفها عالم الجاهلية. وقد مستنا عدوى العقلانية الجافة، واختلطت في مجتمعاتنا دوافع النفس البشرية المشتركة مع الدوافع الجاهلية الهِيَاجِيَّةِ الـمُعْدية، فضمُرَت، ثم ذبُلَت، ثم ماتت رقائق القلب من تواد، وتراحم، وتساكن. فإذا مجتمعنا تركيب تُقَعْقِعُ فيه المصالح، والعلاقات النفعية الجافة، والكراهية، والتحاسد، والتباغض، والعنف وهو الجاهلية” 5.
وها نحن عدنا من حي بدأنا، إذ الخروج من واقع مجتمعي يفيض بهذه القيم الأرضية التي تتحول حتما إلى صراعات عنيفة، إنما يحصل بتحقق ذلك الأساس؛ تلك المحبة التي تصير حياة القلوب ونظام العقول والمجتمع، أساس حب الله ورسوله، لذلك كان محبته صلى الله عليه وعلى آلأه وسلم هي العروة الوثقى.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه