أصدر الأستاذ عبد الكريم العلمي، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان وأحد أقرب التلامذة إلى الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، كتابا وسمه بـ“السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين” هَدف من خلال صفحاته، التي تجاوزت الثلاثمائة، وعن طريق تنويع المداخل وتتبّع المسارات، إلى إيجاد تأويل موحّد، بين أبناء الأستاذ ياسين وتلامذته، لمفهوم “الصحبة في الجماعة” الذي قال به الإمام في آخر مكتوباته، ونقصدُ وصيّتَه.
ظهر الكتاب بعد عشر سنوات من وفاة المرشد، وبعد عشرين عاما من كتابة وصيته التي حملت جديدا على مستوى المفاهيم التأسيسية، ونقصد مفهوم “الصحبة في الجماعة” الذي يُعدّ تجديدا داخل مسار “السلوك إلى الله” وتاريخه؛ فقد كان كلّ أرباب التربية ومشايخها يُوَرّثون “سرّهم” لرجل من لحم ودم فردا، من أبنائهم الطينيين أو من تلامذتهم، بينما مات المرشد عبد السلام ياسين “وبقي سر الجماعة في الجماعة”، كما عبر هو نفسه في إحدى توجيهاته. وقد جاء الكتاب ليُنير العقل، ويُجلي أيّ سوء فهم، ويفقّه من يجد في نفسه الحاجة والسؤال خالصين صادقين.
لا ينطلق الكاتب من صرامة أكاديمية مبالغ فيها، ويظهر ذلك من خلال:
أ ـ حكَمتْه شواغل معرفية تربوية ممزوجة بنَفَس حركي تغييري، ذي خلفية عاطفية روحية.
ب ـ أكثر من استدعاء نصوص الأستاذ ياسين قصيرها وطويلها، وهذا أمر طبيعي في مثل هذه الكتب.
من فطنة الكاتب وذكائه، أن وَسَمَ كتابَه بـ”السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين” ولم يمنحه عنوانا يُفهم منه أنه رَدُّ فعلٍ على النقاش الذي أثير في وسائل التواصل الاجتماعي حول مفهوم “الصحبة في الجماعة” بأسلوب أبعد ما يكون عن إرادة الفهم وطلب المعرفة. ثمّ إنّه لم يشأ الانفراد به، بل جمع حوله الكثير من أبناء الأستاذ، فظهر على شكل “وثيقة رسمية” تنظيريَّة وعملية، تُعبّر عن اختيارات جماعة العدل والإحسان وصوتِها، وليس تقديرات الكاتب الشخصية، لأن مجلس الإرشاد تابعَ معه يوميات تأليفه وناقشه في كل تفصيلاته، ثم احتفت الجماعة به، إثر صدوره، في الذكرى العاشرة لوفاة المرشد، ونقلت وقائع ذلك على مواقعها الإعلامية.
الأستاذ فتح الله أرسلان مُقدِّما للكتاب؟
أ ـ احتفاءً بالرجل الرّصين وفرحا به، وتقديرا لجهاده وعطائه.
ب ـ تأكيدا على أنَّ أمرَ “الجماعة” أمرٌ واحد، فلا تنافر عندها بين العدل وبين الإحسان؛ ذلك أن الأستاذ أرسلان، رغم باعه الطويل في مجال التربية والإحسان، اشتهرَ بأحاديثه السياسية وحواراته في الشأن العام، بينما الكتاب يتهمّم -بالدرجة الأولى- بقضية “السلوك التربوي إلى الله”.
وكما هو شأن كلّ الكتب التأسيسية، أو التآليف الرامية إلى رفع غموض خالط تلك الكتب، فإن الوقوفَ عند سياق التحرير والنشر مُهم حتى تُفهم المرامي والمقاصد:
أـ اشتهر الأستاذ عبد الكريم ـ داخل الجماعة وخارجها ـ باهتمامه الدائم بقضية الكتاب، وشواغله الكثيرة وَحْدَها من حالت دون تأليف هذا المتن ونشره منذ مدّة. بمعنى أن الرجل ليس طارئا على الموضوع، ولا مُكلّفا به من قبل المؤسسة التي ينتمي إليها، ولا يُثرثرُ مع أحد.
ب ـ بروز قراءات خاطئة لمفهوم “الصحبة في الجماعة”، وتصريفها بطرق غير سليمة، ومُشوِّشة، وارتفاع صوت من يقول بـ”صحبة رجل حيّ”، ومن ثمّ وجب توضيح الرؤية وتصفيّتها في إطار ما يسميه المنهاج النبوي بـ”وحدة التّصوّر”.
من تمام الوضوح الذي قصدَه المؤلف أن كشفَ تمام الكشف عن مصادره، خاصة وأن الكتاب جاء ليُحرّر القولَ في مفهوم استجدَّ وَغَمُضَ ضمن نسق وضمن نظرية. وبما أن شاغل الكتاب هو أحد أهم ركائز “النَّظْم” الياسيني فإن أدبياته ستحضر بقوة، وربما سيُكتفى بها إلا ما ندُر. وعليه فقد اتّكأ الكتاب على كتابات الأستاذ ياسين (الإسلام غدا، المنهاج النبوي، الإحسان، إمامة الأمة…)، ورسائله (رسالة تذكير، رسالة إلى منير الركراكي، رسالة إلى عز الدين ناصح، رسالة إلى مسؤولي مدينة مراكش…)، وحواراته (مع الأستاذين عبد الكريم العلمي ومنير الركراكي، مع قناة الحوار، مع ذ.منار)، ووصيّته، وتسجيلاته (ـ كيف نبلّغ هذا الإرث؟ ـ لقاء رابطة الكتبة)، وتوجيهاته الخاصة والعامة (فأعضاء مجلس الإرشاد مجتمعين مُستأمنون عن ميراث الأستاذ ياسين ومُصدّقٌون فيما ينقلونه من كلام المرشد وتوصياته ومناقشاته وإضافاته).
ليس الهدف من مقالتنا هذه الوقوف عند مضمون الكتاب، ولا تتبّع أسئلته التفصيلية، ولا المنهجية التي اختارها الأستاذ العلمي لبَيانه، وإنما قصدنا “التّقديم” وسبيلنا “التّعريف”. ولكن هذا لا يمنعنا من إجمال مضمونه إجمالا في كلمات قليلة، فنقول بأنه رام تتبع مسار تطور مفهوم الصحبة في علاقتها بالجماعة في حياة الأستاذ ياسين وفكره؛ من السلوك الفردي إلى السلوك الجهادي، ومن الصحبة والجماعة إلى الصحبة في الجماعة، عبر مسلكين متكاملين عنوانهما: الاستمرارية والقطائع.
وقضيّته الرئيسية في جملة هي: ماذا بعد وفاة الأستاذ ياسين باعتباره مُرشدا؟ مَن المصحوب بعده؟ وأين “وضع سرّه” عند رجل فرد أم بين “جماعة”؟ ولكن تحرير القول في هذه الأسئلة الكبيرة استوجب تِطوافا واسعا وشاملا بين نصوص الأستاذ وكتاباته ورسائله وتوجيهاته وتسجيلاته.
عندما أحسّ التلامذة بقرب دنوّ أجل أستاذهم، بسبب المرض والتّعمق في العمر أرادوا أن يَـتَـثَـبّـثُـوا منه؛ فبُروز مُستجدٍّ ضمن التصوّر الفكري الكُلّي، يهمّ أحد أهمّ المفاهيم المنهاجية، يستوجب استبيانا واستيضاحا، وإلا قد يكون للغموض ثمنٌ باهِضٌ يُدفع بعد رحيل المُفكّر والمُؤسّس والمربي، وقد تمّ ذلك عبر:
أـ ورقة “الصحبة في الجماعة”؛ وهي ورقة تمت صياغتها من قِبَل أعضاء مجلس الإرشاد، ثم عُرضتْ عليه للاستماع إلى توجيهاته ورأيه فيها. ثم بُسِطَتْ بين يدي مسؤولي الجماعة في رباط تربوي ولقاء جامع.
وقد تفاعل الأستاذ عبد السلام ياسين مع هذه الورقة بثلاث كلمات: “الصحبة والجماعة درجة إلى الصحبة في الجماعة” و”لا نبحث عن صحبة خارج الجماعة ولا جماعة خارج الصحبة”، و”عندما تكون الأوراق تحت قلمك فيمكنك أن تكتب عليها ما تشاء، لكن المعوّل على العمل”.
ب ـ حوار مع الأستاذ منار: وهو حوار اشتغل على إعداده مجلس الإرشاد، وكلّف الأستاذ منار بإدارته. وفيه وضّح الأستاذ ياسين الكثير من الغوامض المرتبطة بموضوعنا في شقّه العام: السلوك إلى الله تعالى، وشقه الخاص: الصحبة بعد وفاة المرشد. وفيه عبّر عن رفضه التوريث، وألحّ على أن “سرّ الجماعة يبقى في الجماعة”.
في الحقيقة، مهما حاولتُ تقريب الكتاب وأسئلته وانشغالاته وإشكالياته في كلمات قليلة مختصرة، أجدني أُخلّ بروحه ونسقيته، ومن ثمّ أتوقّفُ هنا داعيا القارئ المهتمّ للتوجّه مباشرة لفصول الكتاب التي كُتبت بأسلوب رشيق، وبتهمّم وخشوع، وإرادة الحافظية على ميراث الإمام.