الحمد لله الذي أنزل القرآن هدى ورحمة للعالمين، وجعله نوراً يخرج به العباد من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عاش مع القرآن حياة ملؤها الخشوع والتذوق والتأثر.
إذا تأملنا حالنا اليوم مع القرآن، نجد أن بيننا وبين القرآن فجوة كبيرة، نقرأ القرآن بألسنتنا، ولكن قلوبنا بعيدة عن معانيه. رغم أنه بين أيدينا؛ نتلوه في صلواتنا، ونسمعه في مساجدنا، ونراجع حفظه في مدارسنا. ولكن، أين قلوبنا من هذا القرآن؟ لماذا لا نشعر بتأثيره العميق كما شعر به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؟ لماذا قرأه النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، وقرأته قلوبنا فجفت؟
كم مرة قرأنا آيات الرحمة ولم نشعر بالأمل يغمر أرواحنا؟ وكم مرة مررنا على آيات العذاب ولم تهتز قلوبنا خوفًا من الله؟ نتلو القرآن، لكننا لا نعيش معانيه، وكأن بيننا وبين التأثر به حجابًا يحجب نوره عن قلوبنا.
لماذا لا نعيش مع القرآن كما عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؟ لماذا لا نخشع كما خشعوا، ولا نتأثر كما تأثروا، رغم أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه الذي أضاء حياتهم؟ في هذه المقالة، سنبحث عن الإجابة في حال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع القرآن، لعلنا نجد الطريق إلى قلوب حية تتذوق حلاوة كلام الله.
هذا الإشكال الكبير يجعلنا نتساءل بعمق: كيف عاش النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن؟ وكيف استطاع أن يجعل منه نوراً يضيء حياته وحياة أصحابه؟ وكيف يمكننا الاقتداء به لنصل إلى التذوق الحقيقي لمعاني القرآن الكريم؟
حال النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن: نموذج للعيش مع كتاب الله
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن الكريم حياةً لا مثيل لها، حياةً تمزج بين التلاوة والتدبر، وبين العمل والامتثال. فقد كان القرآن يُشكل روحه، ويُحيي قلبه، ويُوجه حياته كلها. لم يكن صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن قراءة عابرة، بل كان يتلوه “ترتيلًا” كما أمره الله تعالى في قوله: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4].
حين نقرأ قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، نجد أن هذه الآية تحمل في طياتها توجيهًا ربانيًا دقيقًا وعظيمًا حول كيفية قراءة القرآن الكريم. لكن، ما هو معنى “الترتيل” الذي أمرنا الله به؟ وهل هو مجرد تحسين الصوت، أم أن له أبعادًا أعمق ترتبط بالروح والفهم؟
الترتيل في قراءة القرآن هو القراءة بتأنٍ وتدبر، قال ابن عباس رضي الله عنه: “اقرأه على مهلٍ، وتبيّن حروفه، ولا تنثره نثر الدقل (التمر الرديء)، ولا تهذّه كهذّ الشعر”. تجمع في قراءته بين وضوح الحروف، والتأني في النطق، والتفكر في المعاني. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير الترتيل: “هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف”.
الترتيل هو قراءة القرآن مع استحضار القلب والعقل، والتفكر في كل كلمة وكل معنى. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن يقف عند كل آية، ويتأمل معانيها. وهذا ما فعلته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها حين وصفت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: “كان يقطع قراءته آيةً آية، يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثم يقف، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف” [رواه أبو داود].
هذا الوصف يعكس ذوقًا نبويًا رفيعًا في التلاوة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بتأنٍ وتدبر، يعطي لكل كلمة حقها، ويعيش مع كل آية وكأنها حديث خاص بينه وبين ربه.
الترتيل ليس مجرد أداء صوتي، بل هو وسيلة لإحياء القلوب. عندما يُقرأ القرآن بترتيل فإنه ينفذ إلى القلب ويؤثر فيه. وهذا هو السر في بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، ألم يقل لابن مسعود رضي الله عنه: “إني أحب أن أسمعه من غيري”؟ وكان يبكي عندما يسمعه مُرتلًا مؤثرًا.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد في تلاوة القرآن لذة لا تضاهيها لذة، وسعادة لا تضاهيها سعادة. يصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حال النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن، فيقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليَّ القرآن. قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]، قال: حسبك. فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان” [رواه البخاري].
فلنتأمل هذا المشهد المهيب، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر بالقرآن حتى تفيض عيناه بالدموع! إنه التلذذ الذي ينبع من تذوق المعاني، واستشعار عظمة الخطاب الإلهي، والعيش مع الآيات وكأنها تخاطب القلب مباشرة.
لقد كان ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن مشهدًا عظيمًا يفيض بالخشوع والسكينة. جاء في حديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منه» [رواه مسلم]. كان صلى الله عليه وسلم يتمهل في القراءة، يتدبر الآيات، ويعيش مع معانيها، وكأنها تتنزل عليه في تلك اللحظات.
حديث عائشة رضي الله عنها عن ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجرها
ومن أعظم الأحاديث التي تعكس ذوق النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن، ورقي تعامله مع الترتيل، ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض” [رواه النسائي وأحمد].
هذا الحديث يحمل في طياته معاني عظيمة وتجليات تعبر عن مدى قرب النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، وكذلك عن قربه من أهله وحسن عشرته لهم.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفارق القرآن في أي حال من الأحوال، حتى في لحظات الراحة والسكينة مع أهله كان القرآن حاضرًا في حياته، مما يعكس مدى ارتباطه به نفسيًا وروحيًا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وهو مستند برأسه على حجر زوجته عائشة، مما يدل على أن القرآن ليس مجرد كلمات تُقرأ، بل هو حياة يعيشها المسلم في كل أوقاته، حتى في لحظات القرب العاطفي، فكيف حاله في لحظات الصفو مع ربه عز وجل؟
القرآن هو رسالة للروح والعقل، لا يرتبط بأحوال الجسد. النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحرج من قراءة القرآن في مثل هذا الوضع، مما يدل على صفاء روحه وسمو علاقته بالقرآن.
هذا المشهد يبرز كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلذذ بتلاوة القرآن حتى في أجواء الراحة مع أهل بيته. إنه نموذج لتعليمنا أن تلاوة القرآن ليست عبادة مستقلة عن حياتنا، بل هو جزء من تفاصيل يومنا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن بكل جوارحه. لم يكن القرآن مجرد كلمات يتلوها، بل كان نبض قلبه وروح حياته. حينما نزل عليه الوحي، كان شغفه بكلام الله عظيماً حتى طمأنه ربه بقوله لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 16-17].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر بالقرآن تأثراً عميقاً. ففي صلاة الليل، كان يقف بين يدي الله يناجيه بالقرآن حتى تتورم قدماه، وإذا قرأ آيات العذاب بكى، وإذا قرأ آيات الرحمة دعا. في ليلة من الليالي قرأ صلى الله عليه وسلم آية واحدة وكررها حتى الصباح، وهي: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]. هذا التكرار لم يكن مجرد تلاوة، بل كان تعبيراً عن قلب ممتلئ بتأمل الآية ومعانيها..
نماذج من مدرسة النبوة.. حال الصحابة مع القرآن
لقد ورث الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفاعل العميق مع القرآن. كانوا يقرؤون القرآن وكأنه رسالة شخصية من الله لهم. كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأصغِ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه).
كان تأثرهم بالقرآن يبلغ مبلغاً عظيماً. عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الرجل القوي الشديد، كان يمر على آية من آيات العذاب فيبكي حتى يمرض. في إحدى المرات، سمع قوله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7] فمرض أياماً من شدة خوفه وتأثره.
لقد كان حال الصحابة مع القرآن فريدًا من نوعه، لأنهم تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. كان القرآن بالنسبة لهم مصدر حياة، ومنهج عمل، وسببًا للخشوع والسكينة. تعلموا من النبي ذوق التلاوة وأدبها، وكيف يعيشون معانيه في حياتهم اليومية.
واليوم، يمكننا أن نستلهم من هذا النموذج العظيم، بأن نحيط أنفسنا بصحبة صالحة تعيننا على فهم القرآن وتذوق معانيه، وأن نعيش مع كل آية وكأنها رسالة خاصة من الله لنا. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] ليست دعوة للتلاوة فقط، بل للتأمل والتطبيق كما فعل الصحابة مع معلمهم الأعظم، صلى الله عليه وسلم.