في ظل ظروف يطبعها الألم والقلق والارتقاب، والهمّ والغمّ والاضطراب، طفى–من جديد- النقاش الوطني حول مدونة الأسرة التي ما فتئت تتعالى عنها نداءات التعديل ومطالب الإصلاح على مر عقود مضت. لكن إثارة هذا الموضوع في الظرف الراهن -وأهوال زلزال الحوز ما زالت تلقي بظلالها الكئيبة على الشعب بأكمله من جهة، ونزيف غزّة الأبية، وصراخ أطفالها، وعويل نسائها، وأشلاء رضّعها، يمزّق الحشا، ويفتت الأكباد من جهة أخرى، ناهيك عن غضب نساء ورجال التعليم بسبب نظام المآسي، والاحتقان الذي يعرفه الشارع المغربي بسبب توقف الدراسة وغلاء الأسعار. كلّ هذا يبعث على الشك والريبة والتساؤل. لماذا الآن؟
فنقاش هامّ ومصيري مثل هذا، يحتاج إلى مشاركة حقيقية لمكوّنات المجتمع المدني، في ظروف تتّسم بالاستقرار والأناة والتروّي وتلاقح الأفكار بين أهل الاختصاص بمن فيهم الفقهاء والعلماء ورجال القضاء ورجال التربية والتعليم والإعلاميون والحقوقيون وغيرهم، وهي ظروف غير متوفّرة حاليا. لكن مع ذلك، إن كان لا بد من الحديث الآن، وإن كان المقصود بفتح هذا الورش هو تعديل المدونّة والانتقال بالأسرة المغربية نحو الأفضل والأحسن مستفيدين من التجارب الإنسانية الناجحة-الشرقي منها والغربي- محافظين على هويّتنا الإسلامية، فهذا لعمري عين الصواب. لكن إن كان المقصود من فتح النقاش هو العدول عن الموروث الديني والثقافي، والانسلاخ من جلدنا، ومحاولة محاكاة مشية الطاووس المتبختر المعجب بحداثته، وتقدمه التكنولوجي، وتفوقه العسكري، فهذا لعمري خطأ الغراب.
فحتى نتحدّث عن إرادة حقيقية لتعديل المدوّنة وإصلاحها بما يضمن للمرأة والرجل –على حدّ سواء- عيشا كريما، لا بدّ أن ننطلق من أرضيتنا لا من أرضية الغير. لا بدّ أن نحافظ على هويتنا الإسلامية أثناء السير، مع الانفتاح على مذاهب فقهية أخرى والخروج من دائرة التقليد الأعمى الذي يعادي كلّ اجتهاد، ويهاجم كلّ جديد –وإن كان فيه خير-.
علينا -أثناء إعادة صياغة قوانين هذه المدوّنة- أن نبقى عبادا لله، خاضعين لشرعه، لا خانعين لأوامر “سيداو”. ولا مانع من الانفتاح على التجارب البشرية الناجحة في ضمان الاستقرار الأسري والاستمرار البشري، شريطة ألا تتعارض أو تتصادم مع أصول ديننا الحنيف وأحكامه القطعية.
ثمّ علينا أن نتّفق على عدّة مفاهيم مرتبطة بهذا التعديل، فما المقصود مثلا بالحداثة؟ ما المقصود بالمساواة؟ فإذا كان المقصود بالحداثة تقدُّم الإنسان ورُقِيَّه، واستعماله للعقل الآلة، وتفتُّح هذه الملكة العقلية العجيبة على الكون، وتلمذتها له، واستقصاء شؤونه بالدراسة والتحليل والتركيب، وتأصيل العلوم الكونية من أجل خدمة الإنسان وضمان عيش كريم له، فنحن معها. لكن إن كان المقصود بالحداثة رفض كلّ قديم، واعتماد العقلانية معيارا لكل معرفة، والكفر بالله والاستهزاء بكلّ من يعبد الله ويؤمن به ويتحدّث عنه، فنحن ألدّ أعدائها. فلا حاجة بنا إلى حداثة أصمّها الصخب العصري، وأعماها بريق الصورة الملوّنة، وفتنتها الأضواء، وأغواها سحر الطرق السيّارة الإلكترونية، وأذهلها عالم الفرضيات. فذُهلت وأذْهلت واستهزأت بمن يحدّثها عن الله واليوم الآخر.
لا حاجة بنا إلى استنساخ تجربة الغرب، وجعل التصادم مع الدين وتجاوزه شرطا لتحقيق هذه الحداثة. فحالهم غير حالنا، ودينهم غير ديننا.
ثمّ إنّ المطالبة بـ “المساواة الجندرية” -بدعوى ما تتعرض له المرأة من تفقير وتمييز اجتماعي واقتصادي، وعنف جسدي ومعنوي، وتحرش جنسي، وعدم مساواة في فرص الشغل، وعدم مساواة في الحصول على تعليم لائق، وحرمانها من الرعاية الصحية، وعدم مساواتها مع الرجل في الحقوق القانونية والسياسية- مزايدة خطيرة يجب الانتباه إلى أسبابها ونتائجها.
فهذه الانحرافات الجسيمة التي تعاني المرأة من ويلاتها هي حصيلة أنظمة مستبدّة، فاسدة مفسدة، ولا علاقة للإسلام بها حتى نحاسبه بها. وإجلاء هذه الانحرافات عن واقع الحياة مطلب شرعي قبل أن يكون مطلبا حقوقيا. لكن تبنّي مفهوم المساواة “الجندرية” الذي تمّ في معاهدة “سيداو” والذي يعادي حكم الله تعالى في قسمة الإرث، ويحرّر المرأة من كلّ التزاماتها الأسرية باعتبارها أمّا، أو زوجة، أو أختا، أو ابنة، ويكشف سوأتها للعموم، ويجعلها مرتعا مشتركا للدّوابّ الهائجة بدعوى التحرر… فكلّ هذا نحن منه بُراء.
ثمّ إن الإصلاح المنشود الذي تتطلّع إليه الأسر المغربية لا يمكن حصره في تعديل نص قانوني، أو سنّ ترسانة جديدة من القوانين، فالقوانين لم تصنع -ولن تصنع- أبدا مجتمعا فاضلا. قد يكون لها أثر… لكن حتما لن يكون لها تأثير. الحبّ وحده ينجب تأثيرا وتغييرا.
إننا بحاجة إلى مدوّنة تزيح القسوة عن وطننا، وتبعد الفرقة والصراع عن أسرنا، وتغرس الحبّ في تربة بيوتنا. وهذا لن يتأتى إلا باقتلاع بيئة الفساد التي تنخر جسد الفرد والمجتمع. لن يتأتى إلاّ بمدرسة وطنية لا تتلقى مناهجها التعليمية من ذاك الغالب الذي يُلزمنا بتعليماته واقتراحاته… مدرسة يتعلّم فيها النشء القيم الفاضلة، ويتربى على الخصال الحميدة. لن يتأتى إلا بمسجد مستقل… فيه خطيب حرّ، وواعظ حرّ، وإمام ربّاني يعلّم النّاس مراقبة الله تعالى في كلّ صغيرة وكبيرة. يعلّمهم أن الرشوة حرام، وأنّ الغشّ حرام، وأن خيانة الأمانة حرام، وأنّ الزنا حرام، وأن حبّ الوطن من الإيمان، وأن الله كتب علينا الإحسان في كلّ شيء. لن يتأتى-ما نصبو إليه- إلا بقضاء مستقل نزيه، وإعلام أسري تربوي بنّاء، ونظام سياسي ديموقراطي قائم على العدالة الاجتماعية.
وأخيرا نقول إنّ إصلاح مدوّنة الأسرة يحتاج إلى نقاش مجتمعي هادئ وموضوعي-على أرضيّة إسلاميّة- يستحضر كل السياقات ويراعي مصالح جميع مكونات الأسرة، بعيدا عن كل الضغوطات الأجنبية والإملاءات الخارجية التي تستهدف تفكيك روابطنا الأسرية، وتسعى إلى هدّ صرح قيمنا الطيبة وأخلاقنا الحسنة التي نستمدها من تعاليم ديننا الحنيف، والتي حافظت لطيلة قرون على تماسك أسرنا واستقرار مجتمعنا.