الأسرة وحدة اجتماعية تربط بين رجل وامرأة بميثاق شرعي، ينتج عنه أبناء شرعيون، وتتفرع عنها مجموعة علاقات إنسانية عائلية كالأبوة والبنوة والأخوة والعمومة والخؤولة، فيتكون المجتمع من تعدد هذه الأسر، ومن ثم فإن الأسرة هي قلب جسد المجتمع ومضغته التي إن صلحت صلح المجتمع كله وإن فسدت فسد المجتمع كله، وأي خلل فيها يعود بالضرر على المجتمع الواحد وعلى الأمة ليمتد إلى الإنسانية جمعاء.
لذا جاءت الشرائع لتنظم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة ولتضمن أداء الواجبات وتحفظ الحقوق لأفراد الأسرة المسلمة جميعا، رجلا وامرأة وأطفالا، بكل عدل وإنصاف. ولتحدد المسؤوليات وتوزع المهام ليحصل التكامل فتتحقق المودة والرحمة والسكينة والإحصان والعفاف والحماية. بدءا باختيار الزوج والخطبة، مرورا بالزواج وانتهاء بالتوارث، أو الطلاق في حالة عدم التوافق وهو أبغض الحلال، وهذا أمر لا يمكن أن يختلف فيه ذوو الفطر السليمة.
وأهم ميزة في الحقوق أنها ثابتة غير قابلة للتغيير، فحقوق المرأة تبقى حقوقا، وحقوق الرجل تبقى حقوقا، وحقوق ما ينتج عن عقدهما الشرعي تبقى حقوقا ثابتة كذلك، وهذه الخاصية اكتسبتها من خاصية أسبق لها، وهي خاصية الربانية، فكل الحقوق أصلها رباني، هو الذي أوجبها حقوقا في الأصل، وجاءت القوانين في البلدان ذات الدساتير المسلمة لتضمن هذه الحقوق وتوثقها إثباتا لها وإبراء للذمم كذلك.
فمرجعية هذه الحقوق وأصولها تعتمد بالأساس على الخيارات العقائدية للمجتمعات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، تنزيل قوانين دخيلة على أي بيئة مهما كانت تصوراتها الفكرية أو مرجعياتها الإيديولوجية، فكل بيئة لها القابلية للتسليم بما اقتضته أصولها.
ومدونة الأسرة باعتبارها اجتهادا بشريا يعتريه النقص ويلحقه التقادم، وبعد مرور ما يقارب عشرين سنة على التعديلات التي طالتها، تأتي الدعوة اليوم إلى تعديلات أخرى بالنظر إلى التحولات الاجتماعية الكبرى وطفوح مجموعة من الإشكالات تنم عن اختلالات على مستوى التقنين أو التأويل أو التنزيل تهدد الاستقرار الأسري، مما حتم على كل المهتمين الانخراط في النقاش المفتوح مجتمعيا وبذل الوسع لإيجاد حلول تضمن لمؤسسة الأسرة استقرارها واستمراراها ووحدتها.
وتجدر الإشارة إلى أن أي تعديل في القوانين ينبغي أن يتوافق وروح الشريعة الإسلامية، وأن يبقى مؤطَّرا بأحكام الله تعالى حلالها وحرامها ومباحها. لأن المستهدف من هذه القوانين هم المغاربة المسلمون، فلا مناص من الحفاظ على التنصيص على المرجعية الإسلامية لمدونة الأسرة لأنها تعبر عن هوية المغاربة وتشكل الإطار العام الذي يجمعهم، كما تمثل عنصر ضبط للقضاة في أقضيتهم وللمحامين في مرافعاتهم.
والقول بالمرجعية الإسلامية يقتضي التمييز بين ما هو قطعي وما هو ظني في الأحكام الشرعية، فالأصول القطعية العامة لا مجال فيها للتعديل لأنها أحكام إلهية محكمة، الأصل فيها التعبد وإن لم تكن معللة أو معقولة المعنى، أما ما كان في باب الظنيات فهي خاضعة لاختلاف وجهات النظر، ومن ثم يسوغ الاجتهاد فيها وفق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. هذا الاجتهاد هو المفتاح الذي وضعته الشريعة في أيدي المؤهلين له ممن تحققت فيهم كفاءة النظر في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والعلم بالوقائع المستحدثة مما لا نص فيها خاص، والقدرة على مواكبة التطورات الحياتية.
ومن ثم يتبين ضرورة احترام القطعيات والتفسح في الظنيات، والنأي عن هدم الكليات العامة المنضبطة خدمة للجزئيات العسيرة عن التناهي. فالتوسعة وعدم التضييق على المكلفين قواعد شرعية معتمدة، إذ “إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيعرفه كل أحد”، وإلا فإن الاختيارات المتشددة تؤول بصاحبها إلى العزلة والتجاوز.
إن مدونة الأسرة ينبغي أن تتضمن أحكاما تخدم الأسرة بكل أفرادها؛ فلا تنتصر للرجل ضد المرأة، ولا للمرأة ضد الرجل، والمقصود بالمرأة في المدونة ليس الزوجةَ فقط وإنما المقصود هو المرأة باعتبارها أما وبنتا وأختا… ومن ثم فالحلول يجب أن تكون خادمة لحقوق المرأة بكل حالاتها الاجتماعية، وحقوق الرجل بكل حالاته الاجتماعية، وحقوق الأبناء كذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن أي تنزيل لمقتضيات المدونة لا يستقيم إلا إذا رافقتها منظومة القيم الأخلاقية، فالذي يحفظ حقوق الخلق هو حفظ حقوق الحق عز وجل.