لم يعرف المغرب في عهد الحماية ولا قبلها قوانين مكتوبة مصوغة في شكل قوانين عصرية في مجال الأحوال الشخصية، فقد كان المغاربة المسلمون يخضعون فيما يخص تنظيم علاقاتهم الأسرية إلى الأحكام المدونة في كتب الفقه المالكي.
وبعيد حصول المغرب على الاستقلال سنة 1957، تولت لجنة ملكية برئاسة علال الفاسي النظر في مشروع مدونة الأحوال الشخصية المحال من وزارة العدل، تتكون هذه اللجنة من علماء خريجي جامعة القرويين. وتحيل ديباجة الظهير المؤسس للجنة الملكية على الإطار المرجعي والحيثيات الواجب استحضارها أثناء الإعداد.
وشملت المدونة ستة كتب، ويحتوي كل كتاب على أبواب مختلفة، ويمكن إبداء الملاحظات التالية:
– حصر العضوية في اللجنة الملكية الموكل إليها مهمة إعداد المدونة لعلماء خريجي القرويين، في الوقت الذي كان مجديا توسيعها لتشمل القضاة وباحثين في مجالات أخرى كالقانون والاقتصاد وعلم الاجتماع، بالإضافة إلى الطابع الاستعجالي الذي وسم أشغالها.
– ذُيِّل كل من الكتاب الثاني والرابع والخامس والسادس بفصل ينص على أن ”كل ما لم يشمله هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح أو المرجوح أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك، حيث تم استلهام جل قواعدها من المذهب المالكي وبالتالي سد باب الاجتهاد أمام أي رأي خارج هذا الإطار.
– أضفي على المدونة طابع القدسية حيث استمر العمل بها على الوجه الذي خرجت عليه مدة 36 سنة وباءت كل محاولات الإصلاح بالفشل، حيث عملت الدولة بكافة الجهات الحكومية على حماية المدونة بغية مواجهة كل تجديد أو تعديل.
– إطلاق اسم مدونة الأحوال الشخصية بما له من حمولة، وهو ترجمة حرفية لتعبير نظام الأحوال الشخصية (Statut personnel) والمستمد من مبادئ الفلسفة الليبرالية الغربية التي قامت على حرية تصرف الفرد.
– تأسيس المدونة لأسرة تهتم بعلاقات الزوجين مع عدم الاهتمام ببقية أعضاء الأسرة من أبناء ذكورا وإناثا؛ وآباء وأمهات؛ وإخوان وأخوات.
ورغم الحماية التي عرفتها المدونة، فقد ظهرت عدة محاولات للإصلاح بعد مصادقة المغرب على مجموعة من الاتفاقيات الدولية، مما دفع عدة جمعيات ومنظمات نسائية إلى ممارسة ضغوطات على الدولة من أجل الإصلاح. وعرفت المدونة عدة محاولات للإصلاح في السنوات التالية:
* 1961: مبادرة رؤساء المحاكم المغربية.
* 1965: مبادرة وزير العدل آنذاك.
* محاولات أخرى سنوات: 1970، 1974، 1979، 1981.
كل هذه المحاولات الإصلاحية لقيت رفضا من المشرع المغربي وبقي العمل بالمدونة منذ 1957 إلى حدود سنة 1993 حيث كانت أول محاولة موفقة للتعديل. وبعد احتدام الصراع حول تغيير المدونة بين الجمعيات النسائية والفعاليات السياسية من جهة، وبين العلماء والحركة الإسلامية من جهة، تشكلت لجنة من العلماء ورجال القانون في 14 أكتوبر 1992 برئاسة الأستاذ عبد الهادي بوطالب لتعديل المدونة، توجت بإصدار مدونة الأحوال الشخصية بتاريخ 10/9/1993. وجاءت إصلاحات سنة 1993 محدودة، هذه التعديلات لم تكن جذرية بل اقتصرت على بعض الفصول دون غيرها. وركزت على ما يلي:
– الزواج: تم إقرار قيدين على التعدد، فاشترط المشرع على الزوج ضرورة إخبار الزوجة الأولى برغبته في الزواج عليها، وأهم مستجد في هذه المادة يتمثل في أن التعدد في كل الأحوال، لا يمكن أن يتم إلا بعد الحصول على إذن القاضي بذلك.
– الطلاق: وضعت مدونة الأحوال الشخصية حدا للطلاق الغيابي الذي كان يعطي الصلاحية للزوج لتطليق زوجته غيابيا.
– الحضانة: أصبح الأب يحتل المرتبة الثانية بعد الأم في ترتيب الحاضنين (ف 99)، بعدما كان يحتل المرتبة السادسة قبل تعديل 1993. وتم تحديد سن الحضانة في 12 سنة للفتى و15 سنة للفتاة بعدها يختار الاثنان الطرف الذي يريدان العيش معه.
– النفقة: أصبح بالإمكان رفع دعوى استعجالية قصد الحكم بالنفقة، وأسند للقاضي السلطة التقديرية في تحديدها.
– تم إحداث مجلس العائلة الذي تتلخص مهمته في مساعدة القاضي في تدبير شؤون ونزاعات الأسرة (ف 156).
لقد أزالت التعديلات الجزئية التي عرفتها مدونة الأحوال الشخصية سنة 1993 هالة القدسية عنها واعتبارها اجتهادا بشريا قابلا للمراجعة والتعديل، وبما أن تعديلات سنة 1993 لم تلب متطلبات كثير من الحقوقيين والجمعيات والمنظمات النسائية المتمثلة في الالتزام بمقتضيات الاتفاقيات الدولية، وإلغاء التمييز بين الجنسين، وتكريس مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ومنع التعدد بصفة نهائية.. وغير ذلك من المتطلبات التي نادت بها هذه الجمعيات. انطلقت نداءات جديدة اتخذت طابعا شبه رسمي، ففي سنة 1999، تم إطلاق مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية الذي شكل منعطفا حاسما لظهور المدونة الجديدة، وقد تفرق المجتمع المدني المغربي بين مساندين للخطة ورافضين لها، وكان من بين الرافضين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ورابطة علماء المغرب بمختلف فروعها وجمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية، وكذا الهيئات والجمعيات والأحزاب التي عملت على إصدار بيانات تندد بمشروع الخطة، إضافة إلى المسيرات الرافضة لها ويتعلق الأمر أساسا بمسيرة الدار البيضاء المليونية (12 مارس 2000).
وبالمقابل، نادت مجموعة من فعاليات المجتمع المدني إلى تأسيس جبهة للدفاع عن مطالب الخطة وتطبيق بنودها، وانطلقت مسيرة مؤيدة لها في الرباط (12 مارس 2000). وقد تأكد من خلال المسيرتين، أن مطالب التعديل والتطوير لم تكن مرفوضة في ذاتها، فالكل مجمع على أهميتها وضرورتها لتواكب التغيرات المجتمعية، لكن المرجعية كانت نقطة الخلاف بين الطرفين.
في 27 أبريل 2001، تم الإعلان عن تشكيل لجنة ملكية استشارية مكلفة بتعديل بنود المدونة برئاسة الأستاذ إدريس الضحاك الذي تم استبداله بالأستاذ محمد بوستة، هذا الأخير أشرف على إعداد مدونة الأسرة في صيغتها الجديدة بعد الإعلان الملكي بقبة البرلمان في 10/10/2003 عن التعديلات الجوهرية في مدونة الأسرة.
انخرطت جماعة العدل والإحسان في هذا النقاش المجتمعي الدائر إبان الخطة، وأعلنت عن موقفها من خلال مشاركتها في مسيرة البيضاء. وأعلنت تحفظها على جدوى وفاعلية هذه التعديلات، على اعتبار أن المدخل القانوني على أهميته يبقى قاصرا على النهوض بأوضاع النساء ما لم تواكبه إصلاحات في البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
أسست هذه المدونة لمجموعة من المبادئ من خلال أهم المستجدات التي يمكن إجمالها فيما يلي:
– تبني صياغة “حديثة”، حيث صيغت مدونة الأسرة بعبارات واضحة ومفهومة مقارنة مع المدونة السابقة، مع التأكيد من طرف المشرع المغربي على المحافظة على ثوابت ومبادئ الشريعة الإسلامية.
– مساواة المرأة بالرجل في عدة مجالات:
* إقرار المسؤولية المشتركة للزوجين على الأسرة (المادة 4 من المدونة)؛
* جعل الولاية حقا للمرأة الرشيدة، وتوحيد سن الأهلية للزواج للمرأة والرجل في 18 سنة؛
* الطلاق والتطليق حق يمارسه الزوج والزوجة تحت رقابة القضاء؛
* توحيد مقتضيات الحضانة بالنسبة للمحضون ذكرا كان أو أنثى وربطها بمصلحة هذا الأخير؛
* المساواة في الإرث بين الأحفاد من جهة الأم مع الأحفاد من جهة الأب في إطار الوصية الواجبة؛
* تدبير الأموال المكتسبة من لدن الزوجين بالاتفاق على استثمارها وتوزيعها.
– تقييد التعدد.
ومن خلال هذه المستجدات، يمكن تلخيص أهم المبادئ التي بنت عليها اللجنة تعديلاتها لقانون الأحوال الشخصية في:
– مبدأ التشارك: وهذا المبدأ يجد أساسه في عدد من الفصول بدءا برعاية الزوجين، والتشارك في الحقوق والواجبات المتبادلة، والمساكنة الشرعية، وتبادل الاحترام، والتشارك في تدبير الأموال، والتشارك في صيانة حقوق الأطفال؛
– مبدأ المساواة: والمساواة هنا ليست بمعنى التماثل، ولكن المساواة أمام الحقوق؛
– مدونة لكل المواطنين والفئات: حيث أدرجت المدونة حقوق فئات كان مسكوتا عنها في المدونة كالأطفال والمعاقين والجالية المغربية.
وبعد مرور عقدين من الزمن، أكدت الأبحاث والدراسات التي عملت على تقييم حصيلة تطبيق المدونة على ظهور عوائق وإكراهات نتيجة التطبيق المتباين لنصوص المدونة، كان السبب فيها عدم الوضوح من قبل المشرع في مسائل عديدة، وكذا تأثير الاتجـاهات الفقهية في مرجعية التفسير لروح النص، والمرجعيات الأيديولوجية والانتماء السياسي “الحداثي-الأصولي” لمكونات اللجنة، ويمكن تلخيص أهم الإشكالات فيما يلي:
– غياب اعتماد مقاربة شمولية للإصلاح تنطلق من وجود بيئة ملائمة، يجب أن تتوفر في المخاطبين به القدرة على استشراف أهداف وروح نصوصه، وذلك بالعمل على تغيير العقليات والتمييز بين أحكام الشريعة الإسلامية، وبين العادات والتقاليد التي تعتمد القراءات الخاطئة للنصوص الدينية أو ترتكز على الفتاوى المرتبطة بزمان ومكان معينين؛
– التداخل بين السلطات في الاختصاص والتباين الواضح في الأداء بين السلطة التشريعية والقضائية في تجسيد المبادئ التي كانت وراء تعديل المدونة؛
– الاحترام المبالغ فيه للاتفاقيات والمعاهدات الدولية وتغليب هذا التوجه في مدونة الأسرة على حساب الضرورات الوطنية نتيجة تأثير التوافق السياسي على صياغة هذه المدونة؛
– البطء الشديد في تفعيل المرافق والهيئات الداعمة للتطبيق السليم للمقتضيات الاجتماعية التي يستوجبها تنفيذ الأهداف والمبادئ والفلسفة التي تطورت بتطور سلطة التشريع وإصدار القوانين بالمملكة المغربية.
لا تكاد المطالب والنداءات بإصلاح مدونة الأسرة تخمد حتى تتعالى من جديد على مر السنوات الفارطة، نداءات تعددت سياقاتها وأسبابها، وتباينت من حيث الأهداف والغايات، آخرها ما تعرفه الساحة المغربية اليوم من نقاشات ومطالب لتعديل عدد من القوانين المتضمنة في مدونة الأسرة، وإسهاما منها في هذا النقاش، وسعيا “للدفع نحو إصلاح حقيقي شامل، يكون منطلقه إصلاح أحوال الأسرة، وتكون غايته إصلاح الدولة والمجتمع، من خلال رؤية جامعة ومقاربة شاملة تربط أحوال الأسرة المغربية، وبرامج إصلاحها بمختلف الاختلالات التي تشكل عقبات الإصلاح سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو التشريعي”، أصدرت جماعة العدل والإحسان وثيقتين، تتضمن الأولى مجموعة من المنطلقات المؤسسة لأي تعديل حقيقي وجاد، وتعتبر أن شروط إنجاح أي تعديل قانوني بما يحفظ الحقوق ويصون الكرامة غير متوفرة في مغرب اليوم. ومن أهم المؤطرات التي تتضمنها الوثيقة:
– ضرورة اعتماد المرجعية الإسلامية: توظيف منظومة التشريع التي أحال عليها الشارع الحكيم، في ترقية فهم النصوص، وتحقيق المقاصد المعتبرة، وفتح آفاق التدين المستبصر الواعي، والتبشير بهدايات الرسالة الربانية الخاتمة في بناء الإنسان وعمارة الأرض.
– تدعو الوثيقة إلى إعمال مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة اعتمادا على أن الإسلام دين الفطرة؛ يفرض التساوي التشريعي بين المسلمين حيث تشهد الفطرة بالتساوي، ويفرض المساواة المناسبة والمتناسبة مع طبيعة كل نوع وخصائصه ووظائفه، من دون خلط في الوظائف، ولا انتهاج لرد فعل متعسف ومتطرف بسبب وضعية الظلم العامة النازلة بالمرأة في المجتمعات المسلمة والتي لم يكن الإسلام مسؤولا عنها على أية حال.
– ضرورة توفر مناخ سليم يتمثل في:
* نظام سياسي ديموقراطي يضمن الحق في الولوج إلى المعلومة بكل حرية، فتح النقاش المجتمعي القائم على حرية النقد والاقتراح، توفير العدالة الاجتماعية المبنية على كرامة المواطنين، والحق في التوزيع العادل للثروات.
* اعتماد منظومة تعليمية مبنية على الإصلاح العميق والتربوي لهذه المنظومة عبر تفعيل: الوظيفة التربوية للمدرسة، الوظيفة المعرفية التعليمية المؤسسة للوعي بمعنى الأسرة ومكوناتها ووظائفها، الوظيفة الأخلاقية السلوكية التي تربي على سلوكيات الرحمة والمودة.
* فتح باب الاجتهاد، بالاعتماد على: تجديد الخطاب الديني وفق المقاصد والكليات الكبرى للدين الإسلامي، الجمع بين التأصيل المنطلق من الثابت القطعي، وبين الانفتاح على الاجتهاد في المستجدات النازلة. التأسيس لاجتهاد جماعي في إطار مؤسسي ناظم يضمن تضافر جهود كل التخصصات المعرفية والعلمية والدينية لبناء أحكام تقدم حلولا للمعضلات المعاصرة في مجال الأسرة.
* تنظيم مجال القضاء الأسري عبر حل اختلالات القضاء على مستوى قلة الموارد البشرية، وندرة التخصصات المناسبة، وبيروقراطية المساطر والإجراءات، وعدم إعمال المحاسبة، من خلال تأهيل الإدارة والقضاء عموما، وللقضاء الأسري خصوصا. توفير الإمكانات المناسبة على مستوى البنية المادية والبشرية. التنسيق بين كافة المتدخلين. مأسسة الوساطة الأسرية. الاعتناء بالوضع المادي العام لرجال العدالة.
* إصلاح مجال الإعلام باعتباره من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وذلك من خلال: بناء سياسة إعلامية خادمة للوظيفة الرسالية للإعلام المعززة للقيم والهوية، تغيير الصورة السلبية المقدمة في البرامج عن الأسرة والعلاقات الأسرية، الإسهام في التنشئة الأخلاقية والتربوية إلى جانب المؤسسات التربوية الأخرى، ترسيخ أهمية الأسرة في الوعي العام داخل المجتمع من خلال تعزيز نقل وتقديم النماذج الأسرية الإيجابية عوض التركيز على الأنماط السلبية المشينة.
وتتضمن الوثيقة الثانية وجهات نظر الجماعة ومقترحاتها في مجموعة من القضايا التفصيلية: تزويج القاصر، تدبير الأموال المكتسبة بين الزوجين، تعدد الزوجات، الطلاق والتطليق، استلحاق مقطوع النسب بأبيه غير الشرعي، الحضانة، النيابة الشرعية، الإرث.
إن واقع تطبيق مدونة الأسرة بعد مرور أزيد من عقدين على دخولها حيز التنفيذ، تواجهه تحديات وإشكالات، مما يتطلب جهـودا مضاعفة من طرف الجميع وتوفر الرغبة في الإصلاح وإرادة سياسية حقيقية للتغيير، فلا يمكن مطلقاً أن نصل إلى تحقيق العدل والمساواة إلا باستشراف آليات أكثر نجاعة، تسعى لحماية تماسك الأسرة واستقرارها. وأن القانون والقضاء مهما صلحا وتطورا فلن يكونا سوى عنصرين يكملان باقي العناصر الأخرى، فالمسؤولية مشتركة بين المشرع والقضاء والجمعيات والإعلام والتعليم، وقبل كل هذا وبعده توفر نظام سياسي ديموقراطي وعدالة اجتماعية، من أجل أسرة مستقرة ومجتمع متماسك.