تأطير
من بدَهيات توطين المخططات التنموية وجود بيئة سليمة توفر تربة صالحة أشبه بتربة بلدها الأصلـي، ضمانا لنجاح استنبات المخططات المستوردة، مع استحضار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للبلد المستورِد. ولعل توالي فشل المشاريع التنموية، بل ومخططات الإصلاح القطاعية فـي التجربة المغربية خلال العقدين الأخيرين تحديدا، يعود بالأساس، وهذا بشهادة القائمين عليها، إلى غياب الحكامة الراشدة، وبالتالي هُدرت المقدرات المالية، وبُذر معها الزمن التنموي.
وإسهاما في النقاش الذي ما فتئت مدونة الأسرة تثيره عند كل تعديل، يروم هذا المقال التنبيه إلى مركزية بيئة تنزيل المدونة ضمانا لتحقيق أهدافها. ولعل من الموافقات العجيبة أن المقترحات الأخيرة للمدونة لم تـرُق الفرقاء على اختلاف مرجعياتهم، فالحداثيون رأوا أن التعديلات لا تستجيب للحد الأدنـى من المطالب المرجوة، وذوو المرجعية الإسلامية رأوا أن التعديلات تكريس لانبطاح الدولة لتوصيات هيئات خارجية قصد استئصال ما بقي من منظومة القيم الدينية، وهو ما يهدد الاستقرار والسلم المجتمعـي. وإذا كان الحداثيون يستندون في دعوتهم لتطوير المدونة حماية للمرأة، والمرأة المطلقة أو الأرملة تحديدا، مما يطالها من عسف وظلم إلـى عدم قدرة التشريع الإسلامي علـى مواكبة ما استُجِد من قضايا مجتمعية؛ فإن “الإسلاميين” يرون أن ما تعانيه المرأة مرده إلى سوء فهم للإسلام وتغليب الأعراف والعوائد علـى الإسلام نفسه، من جهة، وإلـى اختلال عام فـي منظومة الحكم القائم علـى الاستبداد.
التأهيل قبل التشريع
يقسم الدارسون السيرة النبوية والدعوة المحمدية إلى مرحلتين: مرحلة مكية دامت ثلاثة عشر عاما، كان الاشتغال فيها على التأهيل التربوي استئصالا لمخلفات الجاهلية اعتقادا وسلوكا وخلقا؛ تأهيل انتشل النفوس من سفاسف الانشغالات والاهتمامات لطلب معالي الأمور وسامق الغايات على عتبة إحسانية: “أن تعبد الله كأنك تراه”، فحققوا فـي كنف الصحبة النبوية الحانية مقتضيات العبودية الحقة لله، وباعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى. يقول عز سلطانه فـي سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن تـكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا. تأهيل خرّج جيلا فريدا بتعبير الشهيد سيد قطب رحمه الله، وهيأه لتلقـي التكاليف والتشريعات الإلهية الـتي توالى نزولها في العشرية المدنيّة، قصد ضبط الحياة الاجتماعية وتحديد الحقوق والواجبات، ومنها تشريع الزواج والطلاق والإرث حماية للتماسك الاجتماعي وتحصينا للجبهة الداخلية للمجتمع، التي بدونها لن تقوم للمشروع الإسلامي قائمة، فكان أن توفرت البيئة للاحتكام إلى شرع الله تعالى وسنة نبيه الكريم في كبير الأمور وصغيرها تسابقا ومسارعة للفوز برضا الله وعظيم جزائه، امتثالا للتوجيه القرآني في سورة الحشـر: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، فانتظمت الحياة الاجتماعية على قاعدة التكارم والعفو والتعاون على البر والتقوى.
فِقْهُ أبْغَضِ الحلال
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معاذ، ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق…”. وإذا كان الطلاقُ أبغضَ الحلال لما قد يترتب عليه من مشاكل اجتماعية، فقد فصّل في تشريعاته القرآن الكريم تفصيلا دقيقا حفاظا على حقوق جميع الأطراف أزواجا وأبناء، مع تغليب المُعطـى الإحساني في تنزيل هذه التشريعات على قاعدة وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، مع امتياز كبير لصالح المرأة المطلقة، حيث يُلزَمُ الزوجُ المطلِّق بتحري المعروف والإحسان مصداقا لقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وقوله جل جلاله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
تشريع قرآني فـي بيئة تربوية إيمانية وفـي ظل نظام عادل راشد حدد حقوق وواجبات الأطراف ورغب فـي تغليب الشق الإحساني علـى الشق العدلـيّ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فانتظمت الحياة الاجتماعية ما تُمُسك بعرى الإسلام، حتى إذا بدل الناس تبدلت حياتهم، وتزعزع بُنيان المجتمع بمقدار ضعف وتلاشي منسوب إيمانهم وابتعادهم عن شرع الله طوعا أو كرها كما في حديث انتقاض عرى الإسلام، فاضمحلّ الوازع الإيمانـي، واستحال التظالم بين الناس جزءاً من ظلم عام فـي المجتمع، هو أصلا وفصلا من مشتقات فساد الحكم القائم علـى الاستبداد وهضم حقوق العباد والعدل فـي توزيع الفقر والبؤس بين الناس. فلا دين حُفظ، ولا دنيا حُصلت، ثم ينبري من يصيح: التشريع الإسلامي هو سبب معاناة المرأة طلاقا وإرثا.
خلاصة
بيئة تربوية عظّمت حُرماتِ الله ونصّبت المؤمن شاهدا على نفسه، فلا يجرؤ على أداء اليمين الكاذب. ورد فـي رسالة القضاء لعمرَ بنِ الخطاب رضـي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري قوله للفصل بين المتقاضِين: “البيّنة علـى من ادّعـى واليمين علـى من أنكر”، وتخيل – رعاك الله – لو اعتمدنا الجزء الثانـي من هذه القاعدة فـي عصرنا حيث لا يتورع الناس فـي الحلف بأغلظ الأيمان كذبا، كم ستضيع من الحقوق؟ وأعظمُ من ذلك ما يُعرف فـي القرآن الكريم بآيات اللِّعان لِفَضِّ حالة تلّبس أحد الزوجين فـي الخيانة، حيث فرض الحق سبحانه علـى الزوجين فـي غياب الدليل أداء قسم فـي غاية الغلظة والشدة. يقول عز سلطانه في سورة النور: وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَاجَهُم وَلَمْ يَكُن لهُم شُهَدَاءُ إِلّا أَنفُسُهُمۡ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ أَرۡبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ وٱلۡخَامِسَةُ أَنْ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَاذِبِينَ وَيَدۡرَأ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرۡبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلۡكَاذِبِينَ وَٱلۡخَامِسَةُ أَنْ غَضِبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ؛ إجراءٌ يستحيل عبثيا فـي غياب وازع إيمانـي يستحضر عاقبة أداء يمين غليظة يُشهِد فيها الزوج (يُقصد بها الرجل والمرأة) الله تعالى علـى صدقه وكذب الطرف الثاني، وإلا استحق لعنة الله وغضبه. إنه لا معنى لأي تدابيرَ أو قوانينَ ما لم تتوفر البيئة السليمة للتنزيـل.
واليوم، حيث تصحرت البيئة المجتمعية إيمانا، وأفلست أخلاقا، واستبدت حكما، كيف تقوم للإنصاف والمودة والعرفان قائمة فـي مجتمع جُهّل فيه العباد جهلا مركبا بدينهم، واستُهدفت أرزاقهم وفُقروا تفقيرا علـى الرغم من تعدد “الأوراش” الاجتماعية، وما يُرفع زورا من شعارات الدولة الاجتماعية؟ فـي بيئة اختلت فيها الموازين وهضمت كرامة الانسان، رجالا ونساء، عطالة وتجهيلا وغيابَ رعاية اجتماعية، لا يستقيم الحديث عن مظلومية المرأة وتصنيفها ضحية لرعونة الزوج وعسفه، والحال أن الشعب عمومَه ضحية لتدبير سياسـي مختل حكامة، مرتهَنٌ قرارا واختيارا لجهات دولية ممعنة فـي استهداف تماسك المجتمع ومنظومة قيمه تسهيلا لاختراقه وضمانا لنهب مقدراته وإجهاض مشاريع تحرره وانعتاقه من نير الوصاية والتبعية.