مثل يضرب للقاضي إذا أرضى جميع الأطراف، ولم يحل المشكلة، فتكلم كلاما معسولا للخصوم، وأبقى النزاع على ما هو عليه، يقولون: قضى قضاء أبي حسل، وأبو حسل كنية الضب عند العرب، ولهم في ذلك قصة طريفة تضرب منها أمثال عدة:
فقد حكوا أن أرنبا كان بيدها ثمرة، فهمت أن تأكلها، فاختطفها الديك منها وأكلها فتضاربا وتلاطما ثم قالا: لا بد أن نختصم إلى حكم، فقال لها الديك: اختاري من شئت فاختارت الضب فذهبا إلى أمام جحر الضب،
فناديا عليه: يا أبا حسل
فقال: سميعا دعوتما
فقالت الأرنب: جئت أنا وهذا نحتكم إليك
قال: في بيته يؤتى الحكم
قالت: كان بيدي ثمرة
قال: حلوة فكليها
قالت: اختطفها مني هذا فأكلها
قال: ما أراد إلا الخير
قالت: فلطمته
قال: بحقك أخذت
قالت: فلطمني
قال: حر انتقم
قالت: فاقض بيننا
قال: قد قضيت.
يقول تعالى: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون سورة الأعراف.
نقص هذه القصة الطريفة المعنى البليغة المبنى عند العارفين بمذهب أبي حسل لنبين للناس أنه من أراد أن يرضي الجميع كان كالضب، وهذا خلاف ما جاء به الله عز وجل في كتابه يقول تعالى: ودوا لو تدهن فيدهنون سورة القلم، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه في سنته عن الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك، قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم” 1 .
فالحاصل من القصة أننا مأمورون بقول الحق والصدع به، لا يهمنا من قبله ولا من رفضه، لأننا محاسبون يوم القيامة عن إنكارنا للمنكر وإقرارنا للمعروف، ويبدو هذا أيضا جليا في الحديث الذي رواه سيدنا جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله” 2 .
من استشعر مراقبة الله عز وجل طلب رضاه فقط ولو سخط الناس أجمعين، الحق مر المذاق لكنه طريق الفلاح، فهذا طريق التمحيص ولولاه لادعى الكل الصدق، وهذا ما نراه جليا في مجتمعاتنا، وذلك نتيجة الضغط المهول الذي تمارسه السلطات في جميع دول العالم العربي، يجب أن تبقى محايدا لا رأي لك، هذا إذا لم يضطروك لأن تكون بوقا لهم كما أصبح الكثيرون، يهللون ويطبلون باسم الطواغيت.
أبو حسل نتاج أنظمة مستبدة تنفق ملايير الدولارات حتى تبقى ملتصقة بكراسيها، لكن أولى لهم ثم أولى لهم، كيف يفرون من الموت وهو الضيف الذي يأتي من غير موعد ولا يستأذن أحدا، يقول تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100) سورة المؤمنون.
يقول علماؤنا الأفاضل: أينما صح الحديث فهو مذهبي، ويقول المنتسبون لمذهب أبي حسل: أينما صحت مصلحتي فهو مذهبي.
أصحاب المذهب الحسلي مفنَّدون وثملون بما ينفق عليهم ويغدق عليهم من ثروات الشعوب.
أين هؤلاء من الأمثلة الخالدة في ديننا الحنيف، حيث يروى أنه جاؤوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته، ورعاً عن المال العام، فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته.
نختم حديثنا بباقة من كلام الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين لنرى كيف هي همم الربانيين أهل الله وخاصته، يقول رحمه الله تعالى: يجب أن يبقى صوت الإسلام عاليا لا يُعلى عليه، صافيا في مثاليته، محتفظا بالوِجهة، رافعا النظر لمقام الرسالية العالمية مهما كانت حركية الواقع وإعصار الأزمات ومجاذبة الناس من جوانبنا ومن خلفنا. يجب أن يبقى صوت الإسلام صافيا ومثاليتُه مرسومة على أفق المستقبل، معزومةً في صدور رجال الدعوة، لا ينجرون إلى أسفلَ مع جاذبية حركة الحكم، ولا يستحيـل هتافُهم “بالحل الإسلامي” مجرد صدىً لتطلعات غيرهم.)يجب أن يكون القرآن كلمتَنا العالية مهما تقاصرتْ خُطانا على مسرح الأحداث. يجب أن يبسط الشرع سيادته على الواقع رويدا رويدا. ولا يصح شيء من ذلك إلا أن نبقى مع القرآن، ومع الشرع، وفي المسجـد، رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. يخـافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله. والله يرزق من يشاء بغير حساب. هو الملك الوهاب لا إله إلا هو) 3 .