تعتبر شخصية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي والتوجه الذي يمثله إحدى المواضيع التي تحدث نقاشا مستمرا بين عدد من المكونات السياسية الفاعلة في الساحة المغربية، حيث يجتهد كل طرف لنسبته إليه مستدلا بسلوكه النضالي وببعض مواقفه لتدعيم وجهة نظره حوله.
تلك مسألة طبيعية، فالمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي شخصية استثنائية قلما يجود الزمان بمثله وهو كسائر الشخصيات العظيمة التي بصمت التاريخ فإن الجدل بخصوصه لا يمكن له أن يتوقف، ذلك أن الأبعاد المركبة والروافد المتنوعة التي شكلت تجربته الكفاحية جعلت عددا من التيارات النشيطة تتعلق به وتسعى لاستلهام جوانب منها؛ فعدّه التيار الإسلامي ملهما له فهو الفقيه خريج القرويين و”المحافظ” المعتز بهويته الإسلامية، ونسبته الحركة الثقافية الأمازيغية إليها، لا سيما الفرع الريفي منها، لأمازيغيته ولأنه أسس كيانا مستقلا عن النفوذ الاستعماري الغربي في منطقة ريفية أمازيغية، كما رآه اليسار رمزا يضاهي جيفارا وماوتسي تونغ.
الواقع أن مولاي محند يتجاوز التصنيفات السياسية المتواجدة لأنه يجمع ما تفرق في غيره في أصالته وتكوينه العصري الذي أهله للاشتغال في القضاء والصحافة، هذا دون الحديث عن عبقريته العسكرية الفذة التي مكنته من تأسيس حرب العصابات وعدته في طليعة من أتقنها، وستظل معركة أنوال الخالدة أكبر شاهد على ذلك، تلك المعركة التي خلدت اسمه وحولته إلى رمز من رموز الكفاح ضد الامبريالية العالمية.
ناهيك عن مبدئيته ووضوح قصده حيث جعل من قضية الحرية قضية لا يعلى عليها تمثل ذلك في نشاطه العسكري، ولاحقا من خلال عمله السياسي في مكتب المغرب العربي للتحرير وفي تصريحاته الصحفية المتفرقة من منفاه، فالرجل كان رحب الأفق ولم يكن شوفينيا أو متزمتا أو متعصبا إيديولوجيا، حيث تجاوز همه الاكتفاء بتحرير بقعة جغرافية محدودة أو الاشتغال باستقلال القطر الذي ينتسب إليه فقط، فتطلع إلى تحرير الأقطار المغاربية جميعها، كما أبدى دعمه وتعاطفه اللامحدود مع كل الحركات التحررية العالمية.
وحتى في السنوات القليلة التي عاشها بعد الاستقلال لم ينشغل بأي طموح شخصي ولم يتورط في لعبة تصفية الحسابات التي انخرط فيها عدد من رموز الحركة الوطنية، فحافظ على العنوان الكبير الذي من أجله عاش ولم يهتم بغير قضية استكمال الاستقلال الذي كان يراه معطوبا والذي نعته بالاحتقلال، كما عبر عن رفض ما بدأ يترسخ من واقع مختل أريد للمغاربة أن يتعايشوا معه، فانتقد دموية النظام في تعاطيه مع مخالفيه مثلما رفض دستور 62 الذي شرعن استبداد السلطة.
كل هذا حول نموذج الخطابي إلى نموذج جذاب لمختلف القوى الحية الباحثة عن معاني التجرد والإخلاص في مستنقع الانتهازية الطافح الذي أغرق المخزن الحقل السياسي فيه، حيث لمسوها في مولاي محند القامة التي لم تنحن أو تطأطئ رأسها والتي لم تنجذب لمغريات الالتصاق بالسلطة وترفها، غير أن الواجب على تلك القوى ألا تتجنى على الرجل وألا تقوله ما لم يقله وألا تستغل صورته للدعاية لتصوراتها بعيدا عما ناضل الخطابي من أجله ليس فقط من باب الموضوعية، ولكن لأن الخطابي قد عقد إجماعا بين نخب وتيارات حوله يصعب أن ينعقد حول غيره، الشيء الذي ينبغي أن يستثمر ما دام كثير من العقلاء والفضلاء ينادون بضرورة البحث عن أرضية مشتركة بين الأطراف الممانعة من أجل عمل وحدوي يخرج البلاد مما هي فيه، وتراث الخطابي يصلح لبناء تلك الأرضية من خلال المعالم الكبرى التي أطرت حركته الجهادية.
ذلك أن شخصية الخطابي تمثل الشخصية المغربية الأصيلة المتشبعة بهويتها المعتزة بجذورها المنفتحة على كل القضايا العادلة، تلك الشخصية التي كان ينبغي أن يحتفى بها وترمز وتخلد في وجدان الشعب المغربي تماما مثلما فعلت الشعوب الحرة مع أبطال كفاحها نحو الاستقلال، لكن السلطة المخزنية لا يناسبها تكريس هذا النموذج للأجيال اللاحقة، لأن المواصفات التي أرادتها لبناء الشخصية المغربية الطيعة الخاضعة تناقض سمات شخصية الخطابي الممتلئة بالعز والعنفوان، لذلك فقد عملت الآلة الدعائية السلطوية على تهميشه والانتقاص من أدواره محاولة إلغاءه من الذاكرة الجمعية للمغاربة.
الواجب إذن أن نعيد الاعتبار للمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي وأن نستكمل ما بدأه باستحضار الأبعاد التي ارتكزت عليها تجربته، لأنها السبيل نحو حرية هذا الشعب التي طالما حلم بها مولاي محند وجاهد من أجل تحقيقها.