1- البعد عن لغة الإيمان والغيب:
خطاب الدعوة، خطاب هداية للإنسان، يخاطب أعمق ما في الإنسان، وأنبل ما في الإنسان، يخاطب قلبه قبل عقله، يخاطب مشاعره ويستنهضها لمعرفة خالقها، والأوبة إليه، والقيام بحق العبودية له، والاستعداد الدائم للقائه، فهو خطاب دال على الله من أقصر الطرق وأبسطها، يوقظ همة الإنسان ويذكره بأصله ومصيره، ولهذا ارتبط الخطاب الدعوي في القرآن في أصله بالدعوة إلى الإيمان والاستعداد لليوم الآخر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ،وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا 1، شاهدا “على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولاً فيما لهم وما عليهم، (….) وَمُبَشّراًتبشر الطائعين بالجنةوَنَذِيرًا تنذر الكافرين والعاصين بالنار” 2.
وأصل الخطاب الدعوي موعظة وذكرى، ولهذا “نريد خطابا مذكرا بالله بأسلوبه ولغته، نيرا في ذاته منيرا لمن يسمعه أو يقرأه، خطابا لا يسكت عن البلاغ الأخروي، بل يعيد وصل ما انفصل في تاريخ المسلمين فيجمع بين العدل والإحسان. العلم النبوي يقول أن هناك علاقة جدلية بين الخطاب والقلب، فكل خلل أو علة بهذه المضغة يجد صداه على مستوى الخطاب، إذ لا يستقيم لسان المرء ما لم يستقم قلبه، فالتنوير بالمعنى القرآني الإحساني إخراج من الظلمة إلى النور، إخراج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمة الإعراض إلى نور الإقبال على الله عز وجل، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة التشتت إلى نور الانجماع على الله، ومن ظلمة الاشتغال بما سوى الله إلى نور ذكر الله” 3.
فروح الخطاب الدعوي، وسر نجاحه في تحقيق غايته، أن يبقى محافظا على ربانيته، ومسحته الإيمانية، ونزعته الأخروية، وسهمه الوقاظ المنير الموجه إلى قلوب العباد، ودونه تنكب عن سبيل الأنبياء، وخاتمتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، معلمو الدعاة وقدوتهم، “ألا وإن الله عز وجل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن سكوت الإسلاميين، سكوت كثير منهم، عن الذي جاءت من أجله الرسل وهو دعوة العباد إلى ربهم وتذكيرهم بالمصير الأخرويِّ، أدَّى إلى ضُمور الحِسِّ الدعويِّ، فإذا بالإسلام المنطوق به الـمُعلنِ المكتوبِ مذهبٌ في الحكم، رائع متفوق. وهم عن الآخرة هم غافلون” 4.
2- طغيان الخطاب السياسي على الدعوي:
كثيرا ما يتطلع الدعاة إلى إقامة دولة الإسلام، تقيم شرع الله، وتحقق العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وتتيح لهم الفرصة لإبلاغ كلمة الإسلام في عزة وإباء، بعيدة عن المضايقات والملاحقات، لكن ما أن تفتح الأبواب، تضايق دواليب الدولة، وانشغالات السياسة، والمنافسة على الدنيا المبسوطة وقتئذ، صوت الدعوة، ونداء الدعوة، ورغم صدق الطلب، “والخطرُ المتربصُ بكل زاحف على قلعة الدنيا وزبدتِهـا، أعني الحكمَ وممارستَه ومصارعةَ الناسِ عليه وفيه، هو انمحاقُ الإيمان الفرديِّ وانسحاقُ التطلع الإحسانيِّ إن وُجِدَ ابتداءً. ومن ثَمَّ ذوبانُ الدعوة في الدولة، وانتِهاكُها، وتسربها في مساربها كما تتسرب قطراتُ الماءِ في الرمال العطشى” 5
الوفاء لكلمة الدعوة في خضم فتنة المال والمنصب وقيادة الجماهير على حلبة السياسة، دونه تزكية نفس الداعية الخطيب في الأمة، والانشغال بالمطالب والغايات العظمى التي جعلها الله مناط الاستخلاف في الأرض، وهي إقامة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمفهومه الواسع، قال تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ 6.
وثمة مثلب آخر يهدد الخطاب الدعوي المعاصر، وهو الانسياق مع خيارات النظام السياسي القائم، وميلان الخطاب حيث مال، في خطابه الديني الانتقائي، يلتمس الرضى وعافية الجبناء، على حساب صفاء الكلمة وصدقها.