1- الاستعلاء في الخطاب الدعوي وتقديس الذات:
آفة خطيرة، وقاصمة ظهر السلوك التربوي لخطيب الدعوة، إذا ما انتابه شعور بعلو الكعب على مخاطبيه في الاستقامة أو العلم، فيخاطبهم من برجه العالي، وكأنه يمتلك صك الغفران المزعوم، وأن طريقه إلى الجنة والنجاة قد حسم، وأن هداية الآخرين ملك له، قد صبت حسناتهم في سجله النظيف، فيكيل التهم لمن حوله، وينسب لهم التقصير ولنفسه الكمال، ولهم الشك ولنفسه اليقين، وهو القاضي ومستمعوه المتهمون المستجدون. ورحم الله الأستاذ الهضيبي عندما أحس بهذا الداء العضال يسري إلى قلوب وعقول الضعفاء من الدعاة، فألف كتابا سماه “دعاة لا قضاة”، لكن صيحته الحكيمة الثاقبة، لم تثن تيارا من المتنطعين، ليجدوا أنفسهم في مستنقع تكفير إخوانهم في العقيدة يحلون سفك دمائهم ويفتون بإهدارها. وقد نهى الله تعالى عن سلوك هذا السبيل بداية، فقال سبحانه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ، إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُالْمَغْفِرَةِ، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ 1. “قال ابن عطية: حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم (…). والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أو لا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس” 2.
ومن أسباب هذه الآفة الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة فكرا ومذهبا، فتجد الخطيب يجزم احتكار الحق والصواب، وما علم أن ما استقر عليه رأيه أو مذهبه أو مدرسته الفكرية، لا تعدو اجتهادا بشريا قاصرا، يحتمل الخطأ والصواب، كاجتهاد غيره، وأن ادعاء الكمال دون مدرسة الموحى إليه صلى الله عليه وسلم هراء وافتراء، وتطاول على إجماع الأمة ووحدتها وأخوتها. إن ما يجمع الأمة من أصول وثوابت، ميزان ينبغي لخطباء الدعوة أن يتخذوه دليلا في طريقهم إلى تحقيق الأهداف الجليلة لخطاب الدعوة.
2- تغييب فقه الواقع ومقاصد الشرع:
فقه الواقع من فقه الدعوة، وخطيب الدعوة ليس من يجيد لسان قومه، ولكن من يبين لهم، ويكلمهم في نوازلهم المحيطة بهم، ويرشدهم إلى طريق الخلاص، وهذا يقتضي العلم بأحوال الناس، وواقعهم، وظروفهم، وما يصلح خطابا في زمان أهله وواقعهم، قلما يصلح تنزيله في قوم استجد من أمرهم مالا يتصوره السلف، وإنما العبرة بمقاصد الشرع لا حرفية النص، ولحكمة أرادها الله تعالى أن يرسل كل صاحب رسالة عليهم السلام بلسان قومه، ومن بيئتهم، ويمشي في أسواقهم، بل ويعايش الضعفاء من قومهم أكثر ما يخالط أغنياءهم، لأنهم في الغالب الصورة الحقيقية لواقع القوم، لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفقه الدعاة وأقرب الناس إلى الواقع، يجيب على السؤال الواحد بأجوبة كثيرة حسب السائل وحاله ومرتبته وبيئته، يسأله عدد من أصحابه: أوصني يا رسول الله، فيقول لهذا: “لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت بالنار ، ولا تعص والديك وإن أمراك أن تتخلى من أهلك ودنياك فتخله، ولا تشربن خمرا فإنها مفتاح كل شر، ولا تتركن صلاة متعمدا فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله”، ويقول لهذا: “عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك وما يعتذر منه”، ويقول للثالث: “عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله”، ويجيب الرابع: “استقم، وليحسن خلقك”، ويرشد الخامس: “لا تغضب”، ويقول لسادسهم: “أوصيك ألا تكون لعانا”، ولسابعهم: “لا تبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفا”، وعلى نفس السؤال يجيب ثامن أصحابه: “عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد في سبيل الله فإنها رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة كتابه فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء”، وتاسعهم: “اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله، قال هذا وأشار بيده إلى لسانه”. فحاشاه أن تكون توجيهاته صلى الله عليه وسلم متضاربة، ولكنه يراعي النفس البشرية وواقع الناس وبيئتهم وظروفهم، والحرص على لم شمل الأنفس وانجماعها على خالقها سبحانه. وعلى منهاجه سار السلف والخلف من خطباء الدعوة الراشدين. واستحضار مقاصد الشرع بما أثله علماء الأمة، قبل إعمال النص، أصل فقه الواقع، وفقه سنن الله الكونية في التدرج والأولويات بتقديم الأصول على الفروع، فقه وحكمة يؤتيها الله من شاء من عباده الموفقين.