مسار فتح مكة.. من التمثل الجماعي إلى التمثل الفردي

Cover Image for مسار فتح مكة.. من التمثل الجماعي إلى التمثل الفردي
نشر بتاريخ

من عطاء الله تعالى لهذه الأمة أن جعل مسارها الأول في التأسيس، مسارا ملهما للأفراد والجماعات، في تأسيس الشخصية الفردية والعامة المتشبثة بروح الحياة لله، والفعل في الواقع الأرضي لله، مغالبة للظلم وللظالمين، ومناصرة للحق والمستضعفين، ومؤسسة لقاعدة الاستفتاح المجلبة للفتح الرباني، تتغيَّى كرامة إنسانية تعتصرها من بين فرث الظلم والاستكبار، وذم النفس الأمارة التي تجد ضالتها، في شهواتها المهيجة، المقعدة إلى أرض الدوابية، وتبقى الدروس المستفادة من الأحداث، معينا للإصلاح الجماعي بالأساس، ونحن في هذا العرض نحاول أن ننقل هذه المعينات إلى تمثل فردي، لأن التمثل الفردي شرط حاسم في النصر الجماعي، ولعل أهم التمثلات الفردية المستوحاة من التمثلات الجماعية ما يلي:

1-    الفتح من صلح الحديبية إلى فتح مكة وتهيئة النفوس للفهم

 في صلح الحديبية، اصطفت قريش لمنع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من زيارة بيت الله الحرام، وصلة الرحم مع وطنه الأصلي المُهجر منه قسرا، وهو وأصحابه معزولون من السلاح ولا يريدون حربا، يكثف صلى الله عليه وسلم مشاوراته ويراسل قريشا، عله يجد حلا لما جاء إليه، تتنازع قريش الحلول، وتستقر على رأي إبرام صلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت سهيل بن عمرو، ويتفاءل به النبي خيرا، تتلاطم الشروط والشروط المضادة ليستقر الأمر على بنود، رأى فيها المسلمون إجحافا وتنازلا، وسيوفهم لم تنشف بعد من دماء بدر وأحد والخندق، وتسري في صفوفهم غصة اعتقادهم الانحناء لقريش، ويجلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذه الغصة وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألست نبي الله حقا؟ قال: (بلى). قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى). قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري). قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟) قال: قلت: لا. قال: (فإنك آتيه ومطوف به).” 1.

ويشاء الله أن ينزل سورة الفتح، فتحا لمغاليق الفهم، وفتحا لضيق الحسرة، ويأتي المحب للإسلام الذي آلمته شروط الصلح النبيَّ صلى الله عليه وسلم متسائلا: أفتح هو يا رسول الله؟!! معتذرا نادما متحسرا على ما صدر منه رضي الله عنه.

إن ما جادل فيه الصحابة ومنهم عمر رضي الله عنهم، هو شرع من الله، والدافع لهم في ذلك هو حبهم للإسلام وكرههم من أن يعطوا الدنية في دينهم لأعداء الله، فكيف بك ونفسي أعني، أن نخالف شرع الله جهارا، ونقدم عقولنا وهوانا عن دين الله، إن نصر الإسلام العام لا يتأتى إلا عن طريق الشرط الذاتي الخاص، فلا بد من نصر الإسلام ذاتيا، وعدم إعطاء الدنية في الدين لأعدى الأعداء بين ظهرانينا، وهي النفس، إنها عقبة كؤود، وحديبية معنوية، توازي قريشا في نقض العهود والمواثيق، فأي فتح يجليها عن عادتها إن لم نستفتح نحن طريقنا بمحاربتها على مستوى التصور وعلى مستوى التصرف.

هل ننزل نحن على شروط النفس من منعها إيانا من اعتمار القلب وملئه بالإسلام، كما نزل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على شروط قريش؟ وهل نملك نحن بُعد النظر الرباني الذي يملك حلما ورحمة وقوة في الحق؟ وهل لنا القدرة في الردع إن نقضت هذه النفس عهودها؟ أعتقد أن الأمر ليس سهلا، فكثير من الناس عاركوا أنفسهم أربعين سنة، ولم يمسكوا زمامها بالقوة المنشودة، فإذن لا بد لي ولك من خبير بها تصحبه، ليجلي لك فجورها ووسوستها، لتعرف طريق المواجهة، الصحبة صناعة سلاح المواجهة، ثلاث عشرة سنة المكية، وثماني سنوات المدنية، هي تشرب قلبي من الخبير صلى الله عليه وسلم في ترويض النفوس، وحملها على معاداة ما ألفته من عادات الجاهلية الدوابية المقعدة، حتى تصطف في جانب الموت مدافعة عن حياة الأرواح، وترفض التنازل لقريش نصرة للدين، وتستل سيوفها ردما للدنية فيه.

الصحبة مفتاح المواجهة مع النفس، ونياشين النصر التي تتوسمها، بعد حروب الابتلاءات الوعرة معها، تأخذ منك الجهد الجهيد، فكيف تسلم إن لم تبن هذه الصحبة على ذكر يجلي لك طريق الاختيار، ويرغم النفس على التحرر من روابط العقل الذي يبني حركاته على الحسابات الربحية المادية فقط، والموازنات الحسابية المحضة، والصحبة والصدق أن فتلتا فهما وتصرفا أينعت صدقا، الصدق كاشف، قد يعري الاعتداد، ويخصم جنود المواجهة مع النفس، والاصطبار مع الذين يدعون ربهم بالعشي والإبكار من المؤمنين ذكرا لله لديمومة الصدق وبرهنة على المحبة لعباد الله.

هذه الأثافي الثلاثة المؤسسة حاسمة في ميدان المواجهة مع النفس، والانتصار عليها بها، وبها تُفتح الآفاق للمتوجين من استدامة النصر خارج الذات، وتشكيل قاعدة الانتصار العام داخل جسد الأمة كاملا.

 هذه الأثافي هي التي تصد أعتى أسلحة النفس، فالصحبة والجماعة تقابل طاغوت الأنانية الفردية المتحجرة وتفتح قابليات العمل الجماعي بما تبذره من بذور المحبة لخلق الله، والذكر يقابل طاغوت العقل، والصدق يقابل طاغوت العادة.

2-    الرجوع إلى الوراء يكون أحيانا قوة دفع إلى الأمام

 إن مسح “البسملة” من بنود صلح الحديبية وتعويضها بـ”باسمك اللهم”، ومسح “محمد رسول الله” وكتابة عوضها “محمد بن عبد الله”، وبقية الشروط الأخرى، هي في الأصل لا تأثير لها على أرض الواقع بالنسبة للحصيف الذي له بُعد نظر، فسياسة التفاوض هي ممارسة حقيقية لفن الممكن واستجلاء لوسيلة الجمع بين متناقضين دون التفريط في الثابت في التصور، مع فهم معمق لسياقات الاتفاق، ومآلاته المستقبلية، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعلم أن الدعوة طاقة انبجست، وفكرة خرجت عن طوق التشذيب، فلن تسطيع معاول المقاومة أن تنال منها رغم ضرباتها، ولن تفلح سدود الصد أن تحبسها عما وُجدت له، فأفواج المؤمنين بهذه الدعوة بعد صلح الحديبية كان أكبر بكثير من الذين آمنوا منذ ولادتها، وجلى هذا الصلح الاعتراف الرسمي بدولة الإسلام الناشئة المغرية التي أجابت على أسئلة الشعور والوجدان، ورتبت نبضات القلب بالهداية بعد أن استهواه هبل واللات والعزى، وسطرت على أرض الواقع، مدينة فاضلة في العدل والمساواة والكرامة الإنسانية، وأوهنت روابط القبلية والعصبية والجاهلية التي كانت تربط الناس بقريش الدولة.

في معترك حياتنا التي يختلط فيها الحق بالباطل في الغالب، تضيع عنا بوصلة الحلم والأناة، في صراعنا مع أنفسنا أو مع غيرنا أو حتى مع أعدائنا، التفاوض أحيانا قد يكون دواء مر المذاق، لكنه في آخر المطاف دواء، وعلى مرارته، فهو خير من الحرب التي تأكل كل شيء، إن كان ربح التفاوض أكثر أو يساوي ربح الحرب.

مبدأ الحوار والتفاوض أقرته السلطة العليا الربانية ذات القوة والجبروت، مع أشقى مخلوق، وأضعفه وأوهنه، وهو يتمرد على الأوامر العليا، بدون وجه حق ولا حجة، بل الأدهى من ذلك، أن يطلب هذا الشيطان اللعين، شروطا ويتوعد عباد الله في حضرة ذي الجلال، ويعطيه الله تعالى ما طلب، إقامة للحجة عليه وعلى من اتبعه، ومدحا لأسلوب الحوار والتفاوض.

 حياتنا الملآى بالصراع الدموي، كان يكفيها أن تبني علاقتها حتى مع الأعداء على قوة الحجة، ونضج الفكرة، والقول اللين، ومماكسة الحلول استجابة للقاعدة الربانية وإن جنحوا للسلم فاجنح لها 2.

3-    نقض قريش للصلح، ونقض النفس للعهود

 كان من بنود صلح الحديبية الموقع السنة للهجرة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، أن من أراد الدخول في حلف الرسول وعهده دخل فيه، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت قبيلة “خزاعة” في عهد الرسول الأمين ودخلت “بنو بكر” في عهد قريش.

 كانت بين هاتين القبيلتين حروب مستمرة فأراد “بنو بكر” أن ينالوا من “خزاعة” ثأرا قديما لهم فأغاروا عليهم ليلا وقتلوا منهم جماعة، وأعانت قريش في الخفاء “بني بكر” بالسلاح والرجال خارقة بذلك بنود الصلح مع الرسول الأمين، فأرسلت “خزاعة” إليه تخبره بالأمر وأن قريشا غدرت بحلفائه.

أمر الرسول المسلمين بالاستعداد للخروج إلى مكة نصرة لحلفائهم خزاعة، وأوصى بكتم الأمر عن قريش حتى يباغتها جيش المسلمين.

أدركت قريش خطورة ما أقدمت عليه وأنها دخلت في ورطة، فسافر زعيمها أبو سفيان بن حرب إلى المدينة المنورة لعلاج المشكلة وتجديد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه وجد أن فرصة ذلك فاتت لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الغزو وأمر بالتجهز له.

العهود ونقضها عمليتان ساريتان في دنيا الناس، وأخطر العهود هي التي نتعاهد بها مع أنفسنا تلمسا لطريق الصلاح، واستجابة للنداء الرباني في أن نحيا ونعيش لله، لكن النفس ومن عادتها تنقض العهود، وتتملص من كل مسؤولية أنيطت بها، فهل أوجدنا لها إعدادا وعدة لمواجهتها، وهل نملك جيش فتح مكة لردع هذه النفس وهزيمتها في ميدان المواجهة، وهل نستفتح نحن في الغلظة عليها ومحاسبتها حتى يأتينا الفتح الذي نسلم به من سلطتها وجبروتها، إنها أسئلة مفزعة محرجة، والجواب عنها لا يكتب ولا يروى، وإنما يتلمس في طريق وعر المسالك، منحرف العقبات، مع من يأخذ بيدك، طبيب لبيب يقيك مصارع المرض، وينتخب لك دواء سقمك ومرضك، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “مهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان، وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب، وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب”. 3.

4-    الزحف النبوي نحو مكة.. جهورية الدعوة وسرية التنظيم

وصل خبر نقض قريش لصلح الحديبية لما شاركت قبيلةَ بني بكر الموالية لها في الهجوم على خزاعة المتحالفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهز صلى الله عليه وسلم جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل وفي سرية تامة حتى من أقرب الناس إليه، متوجها نحو مكة، ولم تفلح جهود أبي سفيان في ثني النبي على معاقبة قريش على فعلتها، وصل الجيش المسلم قرب مكة المكرمة وقاموا بإشعال النيران من أجل بث الخوف والرعب في نفوس كفار قريش وحملهم على التسليم دون قتال، وبعد مرور أيام قليلة كان دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة من أربعة محاور، حيث لم تواجه أي فرقة من فرقه أي مقاومة تذكر إلا فرقة خالد بن الوليد والتي قاومها مجموعة صغيرة من كفار قريش تحت قيادة عكرمة بن أبي جهل وقتل منها اثنى عشر مقاتلاً، حيث تمكن المسلمون من بسط نفوذهم وسيطرتهم بشكل كامل على مكة المكرمة في يوم العشرين من شهر رمضان المبارك من العام الثامن للهجرة.

إن سرية المهمة التي قام بها صلى الله عليه وسلم، إنما فعلها تعمية لعيون وآذان المتربصين، وصدمة لقريش قبل أن تستجمع شملها، انطلاقا من مبدأ “الحرب خدعة”، سرية التنظيم والخطط هي وسائل نجاح الجسم التنظيمي، فردا كان أم جماعة، الوضوح في الرؤية والمنهج مطلبان أساسيان لا تنضوي تحتهما سرية التخطيط والعمل الميداني المنظم.

السرية مبدأ المتحكم في شخصيته وعلاقاته، بها تنضج خطط الفعل في المستقبل على نار هادئة، دون ضجيج، أو تشويش من أحد، ومن محامد الدعاء مبدأً، أن يكون سريا، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 4، وقوله تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين 5، وحقق سبحانه طلب زكرياء عليه السلام بدعاء الخفية إذ نادى ربه نداء خفيا 6.

وعلى منوال الخفية في الدعاء يجب أن ينسج المسلم أعماله الخيرية، أو التي لها طابع الاستقبال، حرصا من عيون الأشر والبطر، ومن عيون الحسد والحقد، روى الطبراني في معاجمه الثلاثة، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل، قال صلى الله عليه وسلم “استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود” 7.

5-    حاطب بن أبي بلتعة، وبعض أمراض التنظيم

تروي كتب السير “أن امرأة مشركة من قريش اسمها سارة، قدمت إلى المدينة، وكانت مولاةً لرجل من بني هاشم، تطلب المساعدة إثر حاجة شديدة ألمّت بها، فحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه على إعطائها، فأعطوها مالًا وثيابًا وجملًا تركبه، فخرجت عائدة إلى مكة. عندئذ اغتنم حاطب -رضي الله عنه- عودتها وحمّلها رسالة إلى أهل مكّة مقابل مبلغ من المال دفعه لها، وكتب في الرسالة يخبر قريشًا بعزم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على الغزو، وأن وجهته قد تكون مكّة” 8، والذي دفع حاطبًا -رضي الله عنه- لفعل ذلك أنه لم يكن قُرشيًا، وإنما كان حليفًا لقريش، وكان له أهلٌ وأموالٌ في مكّة، فأراد بهذا العمل أن يصنع معروفًا لقريش، فيكافئوه عليه بحماية أقاربه وأمواله حين يغزوهم المسلمون.

لكنّ الله تعالى أخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم بما قام به حاطب، فأرسل عددًا من فرسان أصحابه يأتوه بالرسالة قبل أن تصل لقريش، فعن عليّ كرم الله وجهه قال: “بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ  الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ صَدَقَكُمْ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ” 9، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ 10.

هذا العمل الذي قام به حاطب رضي الله عنه، هو في الظاهر مخالفٌ لمقتضى الإيمان بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومخالفة لنصرةِ الإسلام والمسلمين، لذا فقد عدّه الصحابة رضي الله عنهم من النفاق، وطلب عمر رضي الله عنه من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتله، لكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل حاطبًا رضي الله عنه عن السبب الذي دفعه للقيام بهذا الفعل، فأخبره أنه لم يفعل ذلك ردّة عن الدين، وإنما فعله لمصلحة دنيوية، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم وقَبِلَ قوله ولم يكفّره. لسابقته في الإسلام والجهاد، ولم يعاقبه وعفا عنه ونهى عن قتله.

إن موالاة الكفار وحبهم، يناقض مقتضى الإيمان، وقد ابتُلينا في زماننا اليوم، بثلة لا توالي الكفار فحسب، بل تتبع سننهم في المأكل والمشرب والهيئة والتفكير، واستلت أسلحتهم في مواجهة دينهم المحرف، لتحارب بها ديننا زعما أن “الدين أفيون الشعوب” وأنه سبب التخلف والهزيمة الحضارية، دونما نظر إلى اختلاف القياس وشروطه واختلاف السياق والمساق، مما يحتم على طليعة المسلمين الدعوية والفكرية، أن يخاطبوا في هؤلاء فطرتهم، التي نشأت في البيت المسلم، وأن ترفق بهم رفق النبي صلى الله عليه وسلم بحاطب بن أبي بلتعة، طبعا مع رسم الدوائر، فليس من دخل في مشاريع التحطيم الذاتي للإسلام، وعبر مناهج متحكمة، وأموال مرصودة لذلك، كمن شرب على الريق سوائل ماركس، واسبينوزا ونتشه، وليس من حَشَره التفقيرٌ والتهميش والاستبداد في زاوية التمرد على كل شيء بما فيه الدين، كمن يُستعمل في مخططات التشويه، وهو يعلم ما يفعل، إن مستويات الموالاة تختلف، ولذلك فأساليب المواجهة لهذه الموالاة، يجب أن تختلف تبعا، مع الابتعاد التام عن منهج التكفير والعنف والاعتداء.

ومن قصة حاطب رضي الله عنه، ألا يأمن أحدنا مكر نفسه، فهذا من أصحاب بدر رضي الله عنهم، وزلت به قدم نفسه، فما بالنا نحن اليوم ولسنا من بدر ولا من الصادقة ولا السابقة مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ونحن نتبع أنفسنا قائدا، وهي تتيه بنا في معمعان الحياة، بدون زاد ولا خوف ولا حياء من الله تعالى.

6-    دخول الكعبة وتحطيم الأصنام ودخول القلب لتحطيم أصنام النفس

دخل الرسول ﷺ مكة من أعلاها وسار والمسلمون بين يديه ومن خلفه وحوله حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام المنصوبة حول الكعبة وهو يردد قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا 11، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد 12، فتخر الأصنام ساقطة على وجوهها. فلما أكمل طوافه دعا سادن الكعبة عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاحها وأمر بها ففتحت، فدخلها وأمر بالصور التي كانت فيها فمحيت، ثم دار في نواحيها وصلى داخلها، ثم خرج منها وأعاد مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأمر أن يبقى في عائلته أبد الدهر.

دخول مكة كان إيذانا بفتح كبير للإسلام وللمسلمين، وتحطيم أصنام التماثيل الباطلة بالمرة، لكن هذه الأصنام وإن حُطمت أشكالها، فإن تأثيرها ومفعولها لا زال يعتور كثيرا من النفوس، فكم من صنم العجب والأنانية؟ وكم من صنم التسلط وحب السلطة وحب المال؟ وكم من صنم الشهوات والبغي والإفساد تعج بها النفس، وتعجز جيوش الندم والحسرة وجيوش التوبة والأوبة، أن تصل لمرتبة جيوش الفتح، لأن الانصياع للقائد المربي لم ينضج بعد، أو أن تَسَرُّع موسى مع الخضر عليهما السلام فينا، ازداد سرعة، لعدم صبرنا على عقبات الصحبة المُنَخِّلة للنفوس، ولفقدان مكاننا وسط الجماعة، التي تَنْجُر قرون العنجهية والتكبر والغرور فينا.

7-    تواضع المنتصر والعفو عند المقدرة

دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مطأطئ الرأس، متواضعا لله على نصره المبين، مخاطبا في أعدائه الذين أخرجوه من مكة المكرمة عنوة: “من دخل داره فهو آمن، ومن داخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن”، ولما حطم الأصنام، تجمعت رجالات قريش منتظرين ما سيفعله بهم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، فتوجه إليهم وقال: “يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟” فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: لا تثريب عليكم اليوم 13، اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن للصلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع” 14.

 وفي اليوم التالي لفتحه مكة ألقى النبي صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها بعض معالم الدين وحرمة بلده الأمين مكة، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وأقام بها بعد ذلك 19 يوما وضح لهم فيها معالم الإسلام وتعاليمه ورتب فيها الشؤون الإدارية للمدينة.

أن يبدأ صلى الله عليه وسلم، بالأمان لأبي سفيان والعفو عنه، فهي جبلة في النبي صلى الله عليه وسلم وآذان إلى بقية قريش بالعفو عنهم، لأن زعيمهم في معاداة الرسول الكريم قد تم العفو عنه، ويترصع جوهر العفو أكثر عندما يخاطب قريشا بقوله: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” حاصرتموني وقاطعتموني في الشعب، قتلتم أصحابي، وأخرجتموني من أرضي، قتلتم عمي، ومع ذلك فأنتم الطلقاء ولي القدرة الكاملة في الانتقام، إنه خلق النبوة في البناء، والدفع بالتي هي أحسن لتحويل العداوات إلى حميمية مجتمعية جامعة.

العفو خلق كريم في كل نفس، خصوصا إذا كان مع القدرة، فإنك تتنازل عن حقك لوجه الله، وأنت قادر على أخذه، وهو طلب رباني لكل مؤمن لرص البناء الأسري والبناء المجتمعي.

 فنسأل الله تعالى أن يفتح لنا وأن يفتح بنا لما يحب ويرضى. والحمد لله رب العالمين.


[1] صحيح البخاري، كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد.
[2] الأنفال 61.
[3] إحياء علوم الدين 3/ 61.
[4] الأعراف 55.
[5] الأعراف 205.
[6] مريم 3.
[7] صحاح الأحاديث فيما اتفق عليه أهل الحديث لأبي عبد الله الضياء المقدسي 1/ 408، وقد اختلف المحدثون في صحة الحديث، لكن المعنى صحيح والله أعلم.
[8] سيرة ابن هشام 2/398.
[9] صحيح البخاري كتاب المغازي بَاب غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا بَعَثَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِغَزْوِ النَّبِيِّ.
[10] الممتحنة 1.
[11] الإسراء 81.
[12] سبأ 49.
[13] يوسف 92.
[14] سيرة ابن هشام بتصرف 6/ 416.