عطفا على مقالة الأستاذة السعدية كيتاوي التي وفقت في التقاط فكرة ما غدا يعرف بالمسافة صفر في تصدي أشاوس المقاومة الغزاوية للعدوان الصهيوني الغاشم، ارتأيت في هذه المادة المتواضعة تأصيل هذا الأسلوب في مواجهة العدو في مسعى لاستكشاف أبعاده الإيمانية والنفسية. والله من وراء القصد.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه، أبصرنا تحت قدميه. فقال ﷺ: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”. وفي رواية: قال ﷺ: “اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما”.
يجسد هذا الموقف ذروة التفويض واليقين في تدبير الله تعالى، وبتعبير الدراما يمثل المشهد قمة الإثارة؛ حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه الصديق رضي الله عنه في متناول العدو. وبلغة الموقن في جميل تدبير العزيز الحكيم جاء الجواب في شكل جرعة طمأنة للرفيق الخائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم رمز الدعوة وحامل لواء مشروع الخلاص من الجاهلية ومشتقاتها؛ وفي الروايتين للحديث منسوب عظيم من الثقة في الله، وإن كانت الثانية “اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما” أعظم من أختها، وقد جاءت بصيغة أقرب إلى التقرير.
في تصوري لتفاصيل هذا الحدث، أعتبر – والله أعلم – بناء عش الحمامة وبيت العنكبوت تسلية لضعافي الإيمان مثلي كي يقبل إدراكهم المتذبذب في تدبير الله تعالى انصراف رجال قريش عن الغار وهم على مسافة الصفر من الهدف، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده مثلي لكي لا تذهب بهم الظنون فيشككون في قدرته جل و علا. من مسافة الصفر أو أقل منه إذن، وبمنتهى اليقين والثقة في الله يهدئ حبيب الله صلى الله عليه وسلم من روع رفيقه ويطمئنه أنه من كان الله تعالى معه فهو في حرزه وحصنه وضمانته.
ومن جميل ما قرأت في تفسير الحديث: “مَنِ اعتَصمَ باللهِ تعالَى كَفاه عمَّن سِواه، فهو نِعمَ النَّاصرُ، ونِعمَ المُعينُ، ومَعيَّتُه تعالَى هي المَعيَّةُ الحَقيقيَّةُ، وما سِواها مَعيَّةٌ كاذِبةٌ زائفةٌ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامَ المُتوكِّلينَ على اللهِ تعالَى…”. فنِعْم حسنُ الظن برب السماوات والأرضين رب العرش العظيم! يقول عز سلطانه موثقا هذا الحدث الكبير في سورة التوبة: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
مسافة الصفر في غار حراء تجسد حقيقة التوكل على الله تعالى؛ توكل مقتضاه كما في الحديث: “لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ أَوْثَقَ مِنهُ بِمَا فِي يَدِهِ”؛ توكلٌ أمرنا القرآن الكريم تخليصه من شوائب الظنون والشكوك، يقول عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
مسافة الصفر قد تكون في تقدير الماديين تهورا وانتحارا، والحال أنها تخلصٌ من مغناطيس البشرية الذي تشد إلى الأرض وتثبط الهمة، فينطلق المقتحم عقبات النفس ويسمو على وساوسها، وكله ثقة أنه في كنف مولاه، وأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله عليه، فيكون بين مزيتين: نصر أو شهادة.
مسافة صفر تجسيد لحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، وتعني مما تعني الرضا باختيار الله للعبد، وقد تكون الشهادة، وهي أسمى مطالب كل مؤمن استكمل مقتضيات الإيمان. إن الإيمان ليس تمنيا ولا سبحا في المياه المحسوب عمقها، المتحكم في أمواجها، بل هو حمل النفس على المكاره وترويضها على التعلق بمحاب الله، ليكون العبد حيث يريده مولاه وفاء بعقد إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وختاما، إن ما أكرم به الحق سبحانه جنده في قطاع غزة من ثبات وصمود أمام أبشع عدوان في التاريخ البشري دليل على الحظ الوافر لأهالينا في غزة العزة في استكمال متطلبات العامل الذاتي؛ ممثلا في تربية إيمانية قرآنية نبوية نرجو أن يحيي بها سبحانه وتعالى موات قلوب أمة غثائية استكانت لملذات الدنيا، وركنت للذين ظلموا فاستأسدت على الأمة المليارية شرذمة من أرذل وأخس الخلق.
مسافة الصفر تسائل كل مؤمن ومؤمنة ليرى موقفه من مقتضيات الإيمان، على قاعدة “اتق الله حيثما كنت”، فما يسره الله لجند المقاومة من ثبات ورسوخ قدم في سلم اليقين، ثمرة سعي ومجاهدة نفس وصبر ومصابرة ودعاء وتضرع أن يجعلهم تعالى أهلا لنصرة دينه وتحرير مسرى نبيه، بل وأن يحرر بهم الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء من الطغاة تنزيلا للبشارة النبوية أن بعد قرون الظلم والاستبداد يبزغ فجر الخلافة الثانية على منهاج النبوة لتنعم الإنسانية بالعدل والكرامة في أفياء العمران الأخوي. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. بلى، هو أقرب ورب العزة من أي وقت. والحمد لله رب العالمين.