عاش مؤسس جماعة “العدل والإحسان” المغربية الأستاذ عبد السلام ياسين عُمرا مديدا تجاوز الثمانين عاما بأربع سنوات، “وُلد” خلالها بضع مرّات دفعت به وقائعُها حثيثا نحو الاستواء المُكتمل الذي يليقُ بكلّ باحث حقيقيٍّ عن المعنى والجدوى. وقد أسفرَتِ المَخاضاتُ العديدةُ والطويلةُ التي تقلّبَ فيها؛ اختيارا أو اضطرارا، سَيْرا ومُكابدةً واقتحاما، تَلْمَذةً وإماما، قارئا ومَقروءا، عن ميلاد عالِم مُجاهدٍ مُجدّدٍ وَرَّثَ النّاسَ تآليفَ كثيرةً تجاوزت الأربعين، اختلفت في الحجم كما تنوّعت في القضايا والمسائل، وقد أبان فيها، ومن خلالها، عن موسوعيةٍ في الاطلاع، وعُمقٍ في الطّروحات، وفَرادَةِ في الصّوتِ والأسلوب.
وتركَ ـ ثانيا ـ تنظيما إسلاميا قويا ما فتئَ يُقدّم نفسَه بصورة مُتمايزَة عن باقي الحركات الاجتماعية ذات الأصول الإسلامية خاصّة فيما يتعلقُّ بالمَدخل المعتمد لتغيير الإنسان، وبالموقف من التاريخ الإسلامي، وإشكالية العلاقة بين ثلاثية الدّعوة والسياسة والتربية، ناهيك عن كيفية التَّعاطي مع مفهوم السياسة: فهما وتنزيلا.
وخلّف ـ ثالثا ـ تجربةً شخصية ثريّة، مكتوبة ومسجّلة وبرواية شفهية من التلامذة الأقربين، تُذكّر بالأكابِر من الشخصيات الإنسانية الفاعلة التي أصبح اسمها حَدّا فاصلا بين “ما قبلها” و”ما بعدها”، لولا “المُعاصرَة” التي تَحْجِبُ العَظَمة، ولولا ما يُوجّهُه إليه بعضُ خصومِه من الإسلاميين والعلمانيين من انتقادات مُتعلّقةٍ كلِّها بأمرين اثنين: مَشْرَبِهِ التّربويِّ ذي المَنْزَعِ “الصوفي”، المَرْفوضِ من طرف هؤلاء جملةً وتفصيلا قبل أيّ بحث أو تساؤل، وخطابِه السياسيِّ وممارسةِ تنظيمِه السياسيَّةِ اللذين كانا دائما ينحيان مَنْحى العُنفوان “الثوري” بعيدا عن “الإصلاحية” التّبريرية؛ انتقادات ـ وقد شوّشت على صورته عندهم ـ مَرَدّها في أحسن الأحوال إلى سوء فهمٍ تَعاظمَ مع الأيام وزادَتْهُ الأحداثُ عمقا واتّساعا، وفي أسوئها إلى اختلاف المرجعيات، والخوفِ من فُقدان المزيد من المواقع، في زمنٍ خَفَتَتْ فيه أصواتُ كلّ الإيديولوجيات الكبيرة، وغدتِ الشعاراتُ الإسلامية مُكتسحةً.
ولادة عبد السلام ياسين الطبيعية كانت عام 1928م بمدينة مراكش، يوم كان المغرب غارقا في التّخلفِ والاِستعمار، وهناك في أحد مساجدِها المشهورةِ تعلّمَ الحَرْفَ واستظهر القرآنَ، ثم أصبح مُعلّما. وبانتقاله للعاصمة الجديدةِ الرباط انفتحتْ أمامَه أبوابُ عالمٍ جديد لم يكن قد اكتشفَه بعد، ومنذ تلك اللحظة بدأت تتشابكُ في تكوين شخصيتِه وفكرِه روافدُ بَدويَّةٌ وأخرى حضريّةٌ غذّت طموحَه في التَّعلُّم الذاتيّ والاِرتقاء في السّلم الوظيفيّ، وجعلتْه فيما بعد يُتقن التفكيرَ باللغة العربية، لغةِ القرآن، تماما كما كان يتقنُ التفكيرَ باللغة الأمازيغية، لغةِ البسطاء من الناس، وهو ما وضعَه قريبا جدا من وجدان الناسِ عامّتِهم. مع تَطْعيمِ أصولِه اللغويَّةِ بروافدَ أخرى جديدةٍ، مثل الفرنسية، التي تعلمها بشكل ذاتي فردي.
وعندما نالَ المغربُ الاستقلالَ عام 1956م، وكان أحوجَ ما يكون للخبراء في كلّ المجالات، اِنَبَرى عبد السلام ياسين للمساهمة في مجال تخصّصِه التنظيميّ والبيداغوجيّ. وقد توزّعَ عملُه يومئذٍ في اتجاهاتٍ أربع: مزاولةِ مهامِّ التفتيش التربوي، وترؤُّسِ مُؤسساتٍ تكوينيَّة تابعةٍ للوزارة الوَصيّة، والمشاركةِ في دَوْراتٍ تدريبيَّةٍ بيداغوجية داخلَ المغرب وخارجَه، وتنظيمِها والإشرافِ عليها.
في هذه الفترة سَيولَدُ قلَمُه، حيث سيشتغل بالتأليف البيداغوجي؛ تنظيرا وتنزيلا ـ وهذا هو الاتّجاهُ الرّابعُ ـ الذي كانتِ الساحةُ التربوية المغربية فقيرةً من جهتِه إلا ما كان من كُتبِ الخبراء الفرنسيين. وكان أوّلَّ ما دشّنَه من تآليف، عام 1947م، كُتيّبٌ “في تعلّم اللغة الفرنسية”.
الملاحظةُ البارزة التي لا تُخطِئُها العينُ أنَّ كتاباتِه التنظيريَّةَ خلال هذه المرحلة كانت تتميَّزُ بأمور ثلاثة: الوطنيةِ ـ البعيدةِ عن السياسة ـ والأخلاقيَّةِ، والتّعليميَّةِ التي تَهْضِمُ المقولاتِ التأسيسيَّةَ وتجاربَ الأممِ وخِبْراتِهِمْ وتنسجُ منها تصوُّرا ذا خُطْواتٍ إجرائيَّةٍ وبسيطةٍ وذات فعالية عالية. لقد كان، رفقة قلّة قليلة، يَشُقّونَ خُطْواتٍ أولى في مسارٍ لم يقطعْه أحدٌ قبلهم من الباحثين المغاربة، حتى غدا “بيداغوجيا” حقيقيا بالمعنى المُتعارف عليه في الثقافة اليونانية القديمة؛ أي “الخادم” الذي يُرافق التلاميذ إلى المدرسة، وأنْعِمْ بها من حِرفة وأَسْعِد بها من وظيفة بدأ بها حياتَه واستمرّ يُزاولُها بصدقٍ وإخلاصٍ حتى آخر رَمَقٍ من حياته، ولكنْ بمداخلَ مختلفةٍ.
بعد أن أحسّ بأن الفكرةَ التربويَّةَ عندَه قد تقعّدتْ ألّف كُتبا كانت ومازالت تُعدّ مرجعا في علوم التربية، ولبنة أساسية في دراسة تطور الفكر البيداغوجي في المغرب بالصّفات العامّة التي سبق عنوَنتُها، ونشر أغلبَها عام 1963م: “مذكرات في التربية”، و”النصوص التربوية” و”كيف أكتب إنشاءً بيداغوجيا” و”المطالعة الجديدة” و”الحساب الجديد” و”الجديد في دروس الأشياء” وبعض القصص.
والجامعُ بين تآليفهِ البيداغوجيةِ كلِّها سماتٌ تفصيليّةٌ تنطلقُ أولا من تجاربِه العمليَّة الذاتيَّة، وما اسْتَقاهُ نظريا من مَقروءاته الكثيرة والدورات التدريبية التي حضرَها، وتَمُرّ عبر الرّغبةِ الجامِحةِ في تجديد مَقولاتِ الفكر التربوي، وهو ما يظهر جليّا في عناوين بعض تلك الكتب، وهذه السّمة تؤشّر على أنَّ تصوراتِ الرجل كانت تصدرُ عنِ استقلاليةٍ واضحة في الشخصية رغمَ تأثُّره الشديد بالعديد من رواد الفكر التربوي الغربي، لأنهم كانوا سبّاقين، ويتميّزون بقدرة فائقة على التحليل والاستنتاج ووضع النظريات والسّهر على تطبيقاتها.
في سنة 1965م، وفي غمرة هذه التَّفوُّقات المرتبطة بالمهنة والتأليف المُفْضِيَةِ إلى ارتقاءٍ اجتماعيٍّ تنافسيّ، وأمام اندهاش كلّ زُملائه ومعارفه، سينتهي عبد السلام ياسين المُفكر البيداغوجي، حيث كان على موعدٍ مع تحوُّل كبيرٍ نَبَعَ من أزمة روحيَّة ـ اعتقدَها البعض أزمةً نفسيَّة ـ تَمَظهرَت في أسئلة وجودية قاهرة دفعتْ به للبحث عن الأجوبة في الفلسفة والفن وباقي الديانات، توحيديةً كانت أو وضعيةً، ليجدَ الطَّريقَ ـ كما عبّر بعد ذلك في كتاب الإحسان ـ في صُحبة رجل صوفي قضّى معه ست سنوات؛ تلميذا ومريدا، قبل أن يغادر “الزاوية” التي احتضنته وليدا، بعد أن “قطّع الألمُ كبدَه”؛ فلم يكن من السّهل عليه أن يُحدِث “قطيعة” مع مجموعِ مكانٍ وأناسٍ ومنهجٍ فيه عرفَ ميلادَهُ القلبيَّ وانقلابَ دولةِ نفسِه. خرجَ لأنَّ وَعيا فكريا آخر تشكّل لديه حول ماهية التربية وماهية السياسة ونوعية العلاقة التي “ينبغي” أن تربطهما، والدور الذي “يجب” أن يَضْطَلِعَ به رجالُ العلمِ والتربية في المجتمع.
في هذه المرحلة من عمره، والتي دامت ستَّ سنوات، لم ينشر عبد السلام ياسين أيَّ كتاب من أي نوع، وسنعرفُ فيما بعد أنه كان في آخرها بصدد تدشينِ تصوّرٍ جديد شعارُه العريض: “المنهاج النبوي وحركيتُه في زمن الفتنة لتغيير الإنسان”؛ لقد انتهى ـ إذن ـ ياسين المفكر التربوي، وانتهى أيضا ياسين “المُريد”، الذي لم يستمرَّ سوى بِضْعِ سنواتٍ، ليولدَ سريعا ياسين صاحب المشروع التفسيريّ التغييري!
كان الأستاذُ ياسين زمنَ تلمذته التربوية مُتهمّما بـ”نَـفْـسِـه”، والأخذ عن شيخه، مُعتزلا شعوريا مُحيطَه، زاهدا في كلّ ما بناه من مَجْدٍ شخصيّ ماديّ ومعنويّ. كان يقضي كلّ وقتِ فراغه وعطلِه ـ تقريبا ـ في صحبة شيخه ومُربّيه، وخدمة توجّهه الجديد، وذلك بالعمل على نشر تعاليم “الزّاوية”، والدّلالة على شيخه بين النُّخبةِ الحضريَّة، خاصة التعليميّةِ منها، كان مُنشغلا ـ كما “الـبْـرّاحْ” ـ بالمُناداةِ في الناس وعلى الناس: من هنا الطريق، وهو الأمر الذي ملأ عليه كيانَه فلم يترك له مُتَّسعا للتفكير في غيره، إلى أن قرّر ـ في قصّة طويلة ـ مُغادرة الزاوية، حيث سيولد عبد السلام ياسين الرابع كما سبق الذكر.
في عام 1972م سيؤلّف كتابين اثنين؛ الأولَ تحت عنوان “الإسلام بين الدعوة والدولة”، والثاني موسوم بـ”الإسلام غدا”، وكليهما جاء ليكون بدايةَ القطيعة مع “الإسلام السُّكوني الفردي” ويُعلي من قيمة “الإسلام الحركي الجهادي” نحو أفق العودة بالأمة إلى مسار الفعلِ والتاريخ بعد قرونٍ قضَّتْها غارقةً في ظلام المُلك العاضّ والجبريّ. لقد كان الكتابان بحقٍّ بمثابةِ البيان التَّدشينيِّ لخطابٍ جديد ارتضاهُ ياسين وانطلقَ يَفْتِلُ فيه سنةً بعد أخرى وموقفا بعد آخر. وعلى طول هذه الفترة التي ستستمر إلى مَماته، يجوزُ لنا أن نستبدل مفهوم الولادة بمفهوم التحوّلات في تصوير وتفسير ما وقع له من تطوّر فكري، لأن هذا التطور سيحدثُ داخل نفس البنية الفكرية، وسيتجلى في محطات بارزة ستشكّل معالم حقيقية في مسيرته، ومن هنا نؤشّر أن تصوّرات ياسين ومقولاته الفكرية زاوجتْ أثناء تقدّمها بين البناء والتراكم وبين القطائع الحادّة.
لقد أعلن في مقدمة كتابه الثاني “الإسلام غدا” أنه بصدد تقديم مشروعه “للمسلمين الباحثين عن إسلامِهم كما نبحثُ في خطّ نظريّ يُعرّج على واقعنا الغثائيّ، يتلمَّسُ مَلامسَ القوّةِ عند الملايين المغلوبةِ على أمرها، هادفا لبعْثٍ إسلاميّ وسيلتُه التربية ثم التربية ثم التربية. ومقصدُه وحدة المسلمين أمَّة متكافئة متعاونة. وغايتُه حمل الرسالة الإسلامية لهذه البشرية الكالحَة المعذبة في الأرض، بعضها بطغيان المعتدين، وبعضها بثقل الحضارة المُتْخَمَة، وجميعها بنَهَم الإنسان وهلعِه وضراوتِه وتكالبِه على هذه الدنيا، وقد ضاعت منه مفاتيحُ الخير، فلا يَهتدي إلى الطمأنينة والسلام سبيلا”.
هو ـ إذن ـ تبشيرٌ بميلادِ اجتهادٍ جديد، بانْبِثاقِ “خطٍّ نظري” حركيّ يشتغل ضمنَ واقعٍ فتنويٍّ، يتَحَسّسُ مكامنَ القوة لدى المسلمين ويعمل على تنظيمها وسَوْقِها نحو تجديد إسلامي مُتّكِئٍ على أساس متين مكينٍ هو التربية بمعناها “الإحساني” كما عرَفه الأستاذ ياسين وتذوّقه يوم كان تلميذا ومريدا. والأفق الواسع لهذا “النظر” هو حمل رسالة الإسلام لكافة البشرية التي ألهاها التكاثر وأنهكها.
في الكتاب الأول وقفَ الأستاذ ياسين مطولا ـ عرْضا ونقدا ـ مع مشاريعَ فكريَّةٍ هدفت إلى تغيير الإنسان والمجتمع، ولكنها اختارتِ الولوج إلى الإنسان من مداخلَ فكريةٍ أو سياسية أو اجتماعية، دون أيّ التفاتٍ للمدخل التربوي، إمّا جهلا بهذا المدخل، أو تقليلا من شأن إمكانياته التفسيرية والتغييرية، أو سوء فهم لأصوله التي تراكمت عليها التناقضات عبر التاريخ، فقرأ ـ مثلا ـ المودودي وسيد قطب ومالك بن نبي وحاجَجَهم ونبّه لثغراتِ طُروحاتهم بعد أن وصف جهودَهم وأثنى على جهادِهم. كما أنه خصَّص فصلا من حوالي مائة صفحة من كتابه الثاني ووسمه بـ”كتاب العالم” شَرّحَ فيه تجربةَ الثورة الثقافية الصينية بقيادة زعيمها ماو، فأبان عن إعجابه بمواقع عنفوانها وقوتها وإرادتها، ووقف مع مثالبِها التي طحنت الإنسان وأهدرت كرامتَه أثناء محاولتها تحقيق إنجازات مادية.