الشابات عماد الأمة، ونساء غدها، وصانعات مستقبلها. لذا يتوجب العناية بهن، وتمكينهن من اكتساب الوسائل العلمية والاقتصادية والاجتماعية التي تأهلهن لتأمين مستقبلهن والمشاركة في بناء مجتمعاتهن. وقد أولى الإسلام هذه الفئة العمرية أهمية خاصة، إن على مستوى الخطاب، أو على مستوى الممارسة. ووصف الخطاب القرآني هذه الفترة الحيوية من عمر الإنسان بالفتوة.
فما مدلولها الشرعي؟ وماهي مقتضياتها العملية؟ وهل يستطيع شبابنا بصفة عامة، وشاباتنا بصفة أخص الثبات على الاستقامة وترسيخ أقدامهن في غرس الفضيلة وحسن الخلق، بل يتعدى الأمر إلى حمل هم الأمة والتهمم بمصيرها، بالمشاركة الفعالة واليقظة في نهضتها، والتصدي لمخططات الإفساد والتضليل والتبعية؟
هذا ما سنحاول في هذا الموضوع بسطه وفق المحاور التالية:
أولا: ماذا تعني كلمة فتوة؟
ثانيا: كيف ترسخ الشابة قدمها في طريق الاستقامة؟
ثالثا: مشاركة الشابة في بناء المجتمع مطلب وهدف
أولا- معنى كلمة فتوة
جاء في حديث لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه: إمامٌ عادلٌ وشابٌّ نشَأ في عبادةِ اللهِ تعالى..” 1.
وقال ابن عباس: ما بعث نبيا إلا وهو شاب، ولا أوتي العلم إلا وهو شاب، واقرأ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى، وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ، وإِنَّهُمْ فِتْيَةٌ، وخص الله تعالى سيدتنا مريم الشابة الطاهرة العفيفة القانتة بسورة كاملة، يتعبد بها آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم القيامة، ليؤكد على أهلية الأنثى للصلاح والخيرية، وذكر تبتلها ولزومها محراب العبادة، فقال تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “إنَّ اللهَ لَيَعجَبُ مِنَ الشابِّ ليست له صَبْوةٌ” 2. والصَّبوة هي المَيل والانحراف واتباع للهوى، لذا أثنى الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على الشباب المستقيم الطاهر العفيف.
تتضح لنا من خلال هذه النصوص العناية الفائقة التي أولاها الإسلام للشباب، فهم حملة الرسالات، ومستقر الوحي، ونموذج الصلاح والفضيلة والعفة.
وعرف الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله كلمة الفتوة قائلا: “نقصد بالفتوة كرم النفس الذي يدفع المؤمن للاستعلاء على الطاغوت، فيكسر الأصنام، ويبذل روحه في سبيل الله. ونقصد بها إلى جانب هذا الرفق مع المؤمنين، وخدمتهم، وتوطئة الكنف لهم.. أما فتوة البناء فتريد صبرا وخلقا.. الفتى يحمل، ويصل، ويجمع، ويفدي إخوته…” 3.
لكن الثبات على الاستقامة غاية صعبة المنال في ظل هيمنة تيار العولمة، وما يصاحبه من تأثير للثقافات الأخرى، وما تحمله من انحلال فاضح على مستوى القيم والأخلاق.
فكيف السبيل لتحصين شاباتنا من تيارات الفتنة الجارفة، فيقفن كالجبال الراسيات ضدها، ويشكلن سدا منيعا في وجه مخططات الإفساد والميوعة، فيكن بحق نماذج يحتدى بها، ولعمري القدوة الحسنة أبلغ من ألف موعظة؟
ثانيا- كيف ترسخ الشابة قدمها في طريق الاستقامة؟
على المؤمنة العض بالنواجذ على لزوم عتبة الصحبة الصالحة فهي مفتاح كل خير، وبها تثبت قدمها في طريق التوبة والإنابة إلى الله تعالى، وطلب مقامات الإحسان، وهذا يحيلنا إلى التعريج على مفاتيح التربية الثلاثة: الصحبة والجماعة، الذكر، الصدق.
1- الصحبة والجماعة
يقول الإمام السهروردي رحمه الله تعالى: “الصحبة إن صحت شرائطها فإنها أجل الأحوال، ألا ترى الصحابة رضي الله عنهم كانوا أجل الناس علما وفقها وعبادة وزهدا وتوكلا ورضى، فلم ينسبوا إلى شيء من ذلك غير الصحبة التي أعلاها”.
وتظل الوصية النبوية صادعة ناصعة ناصحة بالعض على صحبة الأخيار في قوله صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” 4.
تتضح لنا إذن أهمية لزوم الصالحين الأخيار لتشرب جداول الإيمان حية في القلوب، فالصاحب ساحب كما يقول المثل.
2- الذكر
عن عبد الله ضمرة رحمه الله، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: “ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلما” 5.
بصحبة الصالحات وبالإكثار من ذكر لا إله إلا الله يتجدد إيمان المؤمنة الصادقة فتتأهل لتلقي كلام الله بالتعظيم اللازم. عن سيدنا جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا” 6. و”حَزَاوِرَةٌ” جمع الحَزْوَر؛ “هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم” كذا في الصحاح، وفي النهاية: “هو الذي قارب البلوغ”.
3- الصدق
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” 7، وفي رواية مسلم إضافة: “وإذا خاصم فجر”.
تعمق المرشد رحمه الله في تعريف الصدق قائلا: “لا نعني بالصدق هذه الأخلاق التي تخرج الإنسان من النفاق فقط، وهي قول الصدق والوفاء بالعهد والأمانة، وإنما نقصد بالصدق مع الله؛ الصدق في طلب وجه الله، ومعناه توجه الهمة إلى الله تعالى وإلى ما عنده”.
لتكون قدم الشابة راسخة في زمن العبادة، لا في زمن اللهو والغفلة، لا بد لها من الحفاظ على ما تيسر من برنامج يوم المؤمن وليلته، من فرض ونفل وقراءة لكتاب الله عز وجل، وملازمة ورد “تعالي بنا نؤمن ساعة”، وتعني صحبة الصالحات والتعلم معهن في مجالس العلم والإيمان، وهي سنة حمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليها.
والمؤمنة مطالبة بالانتقال من صدق الهجرة إلى صدق النصرة، من خلال نصرة دين الله، وحمل هم الدعوة بين أقرانها. فيتحقق فيها قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 8، فيثبت الأصل الطيب لإيمانها واستقامتها وحسن خلقها، ويثمر فروعا يانعة في سماء دعوة بنات جنسها. فتنال حظها من الوراثة النبوية.
ثالثا- مشاركة الشابة في بناء المجتمع مطلب وهدف
ساهم الشباب في جميع العصور والأمصار في نصرة قضايا مجتمعاتهم، وكانوا وقود التغيير والإصلاح وأدوات البناء. فهل نجد يا ترى في كتب السيرة نماذج حية تتخذها شباتنا أمثلة يحتذين بها؟ وبالنظر لفقه الأوليات؛ ما هو الجهاد الموازي الذي يتعين على الشابات التركيز عليه؟ وكيف يمكن مشاركة الشابة في البناء انطلاقا من وظيفتها الفطرية؟
نماذج صحابيات شاركن في بناء المجمع
يتضح لنا الأمر بجلاء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سجلت لنا السيرة صفحات مشرقة من جهاد الصحابة والصحابيات وهم في مقتبل العمر، نذكر منها سيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها، التي لقبت بأم أبيها لمؤازرتها لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مواجهة كفار قريش. وكذلك مساندة الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته من مكة للمدينة، ومنها لقبت بذات النطاقين. وهجرة الصحابية الشابة أم كلثوم بنت عقبة وحيدة دون رفقة تحميها من أخطار الرحلة الشاقة من مكة إلى المدينة.. وكذلك الشأن في حاضرنا، فالشباب إناثا وذكورا هم من حملوا مشعل التغيير في ربيع الأمة المزهر الواعد بغد مشرق بإذن الله تعالى. فبذلوا المهج من أجل محاربة الفساد والظلم والاستبداد. لكن هناك جهاد مرحلي يتعين على الشابة خوض غماره والتشمير لاقتحام عقباته، وهو جهاد العلم.
اكتساب العلم جهاد الشابة في هذه المرحلة
لكل مرحلة جهادها، ومرحلة الشباب مرحلة حاسمة في تحديد معالم مستقبل الإنسان، لذا يجب استغلالها، وحسن توظيفها في التحصيل العلمي الجاد، واكتساب المهارات اللازمة للاندماج بيسر في الحياة المهنية. وهو مطلب استراتيجي للأمة الإسلامية لمساعدتها على النهوض من كبوة الفقر والجهل والتخلف. مع تحصيل بعض المعارف الشريفة، ومن أجلها طلب علم القرآن وتحصيل علومه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” 9.
ونورد هنا وصية ثمينة للشابة الطالبة يوجهها لها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، يقول: “على المؤمنات اللاتي حباهن الله بالذهن الوقاد والصبر على التعلم وعلى متابعة التعلم من المهد إلى اللحد أن يتخصصن في أداء الفرض الكفائي في التعليم العام بما لا يتناقض مع فرضهن العيني في تربية بناتهن وأبنائهن في البيت” 10.
فما هو الفرض العيني الذي ينتظر شابات الحاضر أمهات المستقبل؟
شابات اليوم صانعات مستقبل الغد
نقضي أياما قصيرة وجميلة نشعر خلالها بالدفء والحنان والدلال في أسرنا، لكن الحياة تأبى أن تسير على نمط واحد، فالتغيير من السنن الكونية، وفي فترة الشباب سرعان ما تجد الفتاة نفسها قد ولجت مؤسسة الزواج، ولتنعم فيها بالسكينة والاستقرار عليها أن تحسن الاختيار، وتكثر من الاستخارة والاستشارة، ثم تتسلح بالعلم والصبر.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الدين وفساد كبير” 11.
والأسر القوية عماد الأمم القوية، فلا تكوني من أمهات الغثاء التي بسببهن دب الوهن في الأمة الإسلامية، بل اجعلي هدفك مقام الكمال الرفيع، مقام القدسية، مقام الأمومة الصالحة. وهو ما أكد عليه الأستاذ ياسين رحمه الله وهو يوصي المؤمنة قائلا: “ما يكون لكمالها العلمي والخلقي وتقواها إلا زينةٌ عقيمة إن أفادتها إفادة فهي فائدة محدودة، ينقطع بعد الموت عملها إن لم تُخَلِّفْ ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظِّف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها، واكتفَتْ بكونها معْبَراً لبروز الذرية، ومحطة لمرورها” 12. فالمرأة الصالحة حافظة للفطرة، لأنها ترضع طفلها ألبان الإيمان، وتلقنه العقيدة الصحيحة، وتربيه على مكارم الأخلاق.
همتك! همتك! أيتها الشابة في طلب المعالي
يقول الشاعر متحسرا بعد انصرام شبابه:
يا ليت الشباب يعود يوما ** فأخبره بما فعل المشيب
وحتى لا تكررنها أنتن أيضا في مرحلة من العمر؛ أدعوكن للحفاظ على شبابكن ونظارتكن وحيويتكن، بالعناية بصحتكن النفسية والجسدية والجمالية، فتحظين بحياة طيبة عنوانها السعادة والنجاح والبذل، ولترفعن سقف الأماني، وتحشدن الإرادة والعزيمة لبلوغ المعالي، وتتركن بصمة متميزة في صنع مستقبل واعد مشرق لكن ولأمتكن، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها” 13..
اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت فقال: ولاية العراق، فنال ذلك. وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك. وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها. وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.
ونختم بوصية خالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: “يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف” 14.
[2] أخرجه أحمد (17371) واللفظ له، والحارث في “المسند” (1099)، وأبو يعلى (1749).
[3] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع-إستانبول، ص 215.
[4] رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
[5] رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
[6] رواه ابن ماجة (61)، وصححه الألباني في “صحيح سنن ابن ماجة” (1 / 37 – 38).
[7] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59).
[8] سورة إبراهيم: 25-24.
[9] رواه أبو داود والترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[10] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 70.
[11] رواه الترمذي وغيره.
[12] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 220.
[13] رواه الطبراني (3/ 142)، وابن عدي (3/ 879)، وغيرهما
[14] رواه الترمذي.