علينا كمسلمين عامة وكشباب خاصة الاطلاع على تاريخ الصحابة المشرق المشرف الذي هو أحق بالاحتذاء والمتابعة ممن يسمون اليوم نجوما. نموذجنا وقدوتنا الشاب مصعب بن عمير الذي لم يعش في الإسلام غير خمس عشرة سنة. ننقل بعض خبره ولا نستطيع أن ننقل كل خبره. شاب لا كباقي الشباب، لم تُلْهِهِ دنياه عن آخرته ولم تُبعده أمواله عن دعوته. سيرته العطرة تجعل كل من طالعها، تتطلع نفسه لتسلق شوامخ الصعاب، وتجاوز عقبات ومثبطات تجعل صاحبها يتمرغ في وحل الملذات والهوى. بل إن مواقف العظمة في حياة مصعب تجعل كل مؤمن ضعفت نيته أو همته تتوثب من جديد.
فمن هو مصعب بن عمير؟ وكيف استحق لقب أول سفير في الإسلام؟ وماذا قال أصحابه عنه؟
هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي، كنيته أبو عبد الله. أمه خُناس بنت مالك، وكانت امرأة ثرية ذات جاه ومهابة، كانت تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، فعُرف مصعب بأنه فتى مكة المدلل، تربى في النعمة واللين وعشق الطيب والراحة. حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير” (رواه ابن سعد في الطبقات). فما الذي بدّل حياته؟ وما الذي قلب كيانه؟ لماذا ترك النعيم والترف؟ ما الحلاوة التي ذاقها أكثر من حلاوة الغِنى والطعام والشراب والظل؟ ومكة قيظ ورمضاء. المُستظلُّ في مكة غني، الذي يشرب الماء البارد في مكة نادر، وهذا كله كان لمصعب.
في بداية الإسلام سمع مصعب أن محمدا بن عبد الله يزعم أنه رسول الله، فذهب إليه، وجلس معه، وسمع منه، فشرح الله صدره وأنار قلبه وهداه للإسلام. وعاش ردْحا من الزمان في جامعة الأرقم بن الأرقم، المدرسة التي خرّج منها الحبيب صلى الله عليه وسلم العظماء، فأسلم وكتم إسلامه خوفا من بطش أمه وعشيرته. ولكن عبير المسك لا بد أن يفوح. رآه “عثمان بن طلحة” يصلي، فأخبر أمه فكادت أن تجن، وكاد عقلها أن يطيش. رغبته، رهبته، خوفته، سجنته وجوعته، حتى يرجع عن دينه، لكن قلب الفتى خالط التوحيد، فجعله يصبر على الأذى في ذات الله، بعد تذوقه لـ”لا إله إلا الله” من يد محمد رسول الله.
ولما ضاق الحال بالمسلمين المستضعفين في مكة، أذِن الحبيب صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة. فخرج مصعب رضي الله عنه في زمرة المهاجرين. وهناك ذاق ألم الغربة وبؤس العيش وجدب الحياة. ثم رجع مع من رجع عندما سمعوا بإسلام أهل مكة، ولكن الأمر كان على غير ما أشيع، فقاسوا من الويلات أكثر من ذي قبل.
أول سفير في الإسلام
ومن العجيب في سيرة هذا الصحابي الجليل، وكل أمره عجيب، أنه رغم ما لقي من قسوة وتغير حال، لم يمنعه من التفقه في دينه والتعلم والفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يصطفيه من بين خيرة الصحابة ليكون سفيره في المدينة، يُفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العَقَبة وهم اثنا عشر مسلما ويُدخل غيرهم في دين الله. فاستحق بذلك لقب أول سفير في الإسلام. والحبيب صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن مصعبا رضي الله عنه معه فقه الدعوة. وأنه يملك أدوات الدعوة بأن يأمر بمعروف بمعروف، وينهى عن منكر بمعروف. وما أعطاه شيئا غير ما رآه منه في دعوته صلى الله عليه وسلم من تعظيم الله في قلوب الناس، ودعوة الناس بالقرآن، يقرأ الآي فيرتلها فتخشع تلك القلوب وتلين وتقشعر الجلود فتدمع العيون.
مضى مصعب الخير إلى يثرب – مجتمع الأوس والخزرج واليهود – وهو على علم أنه معرض للقتل، معرض للتسفيه… مضى رضي الله عنه وهو على علم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره. ولا شك أن الهجرة إلى الحبشة قد أكسبت مصعبا خبرة كبيرة في التعامل مع الأغراب، وأعطته القدرة على ترك الديار ومفارقة الأحباب. وفي المدينة نزل مصعب على أسعد بن زرارة رضي الله عنه الذي كان يهيئ له دخول بعض البيوت، ويعرفه على سادة القوم. فبدأ يدعو لدين الله مُشفقا على خلقه فردا فردا وجماعة جماعة، يأتي النخلة فيجمع أهلها، ويأتي البيوت يعلمهم دينهم ويُقرئهم القرآن، حتى لُقب بالمُقرئ. ونجح في مهمته نجاحا منقطع النظير. وما كان ليتأتى له هذا بعد توفيق الله تعالى لولا ما اتصف به من سكينة ووقار، وعلم غزير وقوة في الحجة، ومعرفة للفوارق الفردية بين المدعوين ومخاطبة كل واحد بما يليق به. وهذا ما نلمسه في دعوته لأُسَيد بن حضير سيد بني الأشهل الذي جاءه شاهرا حربته متوهجا غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره، فقال: أنصفت (امتص غضبه، حكمة داعية). ثم رَكزَ حربته وجلس إليهما (مصعب وأسعد بن زرارة)، فكلّمه مصعب رضي الله عنه بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي. فقام فاغتسل وطهّر ثوبيه وتشهّد بشهادة الحق، ثم قام فصلى ركعتين، (أي قوة في التبليغ هذه يا مصعب الخير حتى تنقل سيد قوم في دقائق من الكفر إلى الإيمان؟ بل أكثر من ذلك أن تنقله من صادٍّ عن الإسلام إلى داعية إليه، حيث فكر في سعد بن معاذ) فقال لهما: إن ورائي رجلا إن اتّبعكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن. (والحديث طويل رواه ابن إسحاق في سيرة ابن هشام) ونهج مصعب النهج ذاته مع سعد بن معاذ، الذي ما إن أسلم حتى عاد إلى قومه، فوقف عليهم وقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة، حاشا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد، ولم يسجد لله سجدة. (سيرة ابن هشام).
إسلام جل أهل المدينة في ميزان مصعب. يا له من شرف تشرئب إليه أعناق الصادقين الغيورين على أمة الإسلام البعيدة عن الإسلام. فها هو مصعب الخير يعلم شبابنا كيف يضع بصمة من الإيمان على كل من يمر عليه، ليكون شبابنا سفراء للإسلام كمصعب الذي ترك الترف هنا ليترف في جنات النعيم. وهي حياة رخيصة وقليلة، نمرها ونعبرها ونذوق آلامها. وما أعذب الآلام إن كان آخر محطات الوصول جنات النعيم.
استشهاد مصعب
لم يكتف مصعب أن يكون أحد فرسان الكلمة والحجة بل أيَّد القول بالفعال وكان فارس النزال كذلك. شارك مصعب رضي الله عنه في غزوة بدر ثم أحد، وأبلى بلاء حسنا، وحمّله النبي صلى الله عليه وسلم لواء المسلمين، وثبت مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل واضطرب الجيش، ثبت هذا البطل وردد قائلا قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا (آل عمران: 144) وأقبل بن قمئة فشدّ عليه فضرب يده اليمنى فقطعها، ثم أخذ مصعب اللواء بيده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضُديه إلى صدره، فحمل عليه الثالثة بالرمح وأنفذه إلى صدره. وعند انتهاء المعركة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتفقدون الجرحى، ويودعون شهداءها. وعند جثمان معاذ سالت دموع وفية غزيرة، وقرأ الحبيب صلى الله عليه وسلم: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب: 23). نال الشهادة التي سعى لها سعيها في أوائل سنين الهجرة، وبات رمزا لشباب الإسلام في البذل والبطولة والتضحية.
شهادات في حق مصعب
– عن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: “كان مصعب بن عمير لي خِدْنًا وصاحبا منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه الله بأحدٍ، خرج معنا إلى الهجرتين جميعا بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلا قط كان أحسن خلقا، ولا أقل خلافا منه” (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى).
– عن خباب رضي الله عنه قال: “هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير” (رواه البخاري).
– عن سعد بن أبي وقاص قال: “كنا قبل الهجرة يصيبنا ظلف العيش وَشدّتهُ، فلا نصبر عليه فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدّة، فاستَضْلعنا بهما وقوينا عليهما. فأما مصعب بن عمير، فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا لمْ يقْوَ على ذلك، فلقد رأيته وإنّ جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحيّة، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعْرِضُ لها القِسِيَّ ثم نحمله على عواتقنا” (رواه ابن إسحاق).
– روى البخاري عن عبد الرحمان بن عوف “أنه كان صائما وأُتي بطعام فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفّن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا.. ثمّ جعل يبكي حتى ترك الطعام”.
– وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مُقبلا، وعليه إهابُ كَبْشٍ قد تنطَّقَ به (يعني يلبس فروة من جلد) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى هذا الر جل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون” (رواه أبو نعيم في حلية الأولياء والبيهقي في شعب الإيمان).
رضي الله عن عَلَم الهدى ومصباح الدجى مصعب الذي ورث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه وسمته وزهده في الدنيا، أسلم طائعا وهاجر داعيا ومعلما ومات شهيدا ومجاهدا. باع الدنيا ففاز بالآخرة، يأتي يوم القيامة وفي ميزان حسناته كل الذين أسلموا على يديه. رحل مصعب الشاب كما سيرحل جميع الناس. لكن ذكراه لم ولن ترحل. رحل قائلا مُخطئ من ظن أن السعادة في مال أو جاه. بل السعادة كل السعادة في القرب من الله وطاعة الله والتمسك بعتبة العبودية لله.