مهمة شاقة ومرهقة؛ تلك التي اجترح المخزن فصولها البئيسة، على مدى ست سنوات من عمر الحراك العربي، وهو يتصنع فضيلة “ضبط النفس” ويتكلف عناء الاحتكام الصوري لمرجعية المؤسسات التي اصطنعها لنفسه وأُفرِزت على عينه وبخالص مشيئته. كان بحق مسارا احتياليا، استطاع المخزن بفضله أن يجتاز لحظات الحرج التاريخي التي برزت إبان الحراك الشعبي عام 2011، وأن يستثمر مخرجات ذاك المسار على الصعيد الخارجي لتسويق وهم الفئة الناجية من مغبة الفوضى، بحكمة السلطان وثورة المؤسسات التي كرست حقيقة “الاستثناء المغربي”. ولئن كانت مؤسسة المخزن المغربي تحتل الصدارة، بقوة الأمر الواقع والطبع الراسخ، في مصف الأنظمة فائقة الاستبداد والعريقة في نهج سلوك المكر السياسي الناعم، فإن هذا الطبع الأصيل سرعان ما يسقط قناع التطبع الرديء، ويطفو على صفحة الأداء السياسي للدولة في شكل انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان ومرجعية المؤسسات، ناسفة عناوين الكذب الزائفة التي بشرت بثورة مؤسسات يضمن فصولها سمو القانون في “دولة القانون”.
هذه المشهدية القاتمة كانت دائما جزءا من تقييم جماعة العدل والإحسان للسلوك السياسي للدولة المغربية وهويتها الاستبدادية العميقة. وتبعا لذلك، لم تكن تتردد بعض الأقلام والمواقف من جانب شركاء الوطن في كيل نعوت العدمية والسوداوية بل والفوضوية للجماعة التي لا تزال، في تقديرهم، “حبيسة مواقفها الجذرية البائدة، وغير جاهزة لالتقاط الإشارات الايجابية التي لا تفتأ تبعث بها الدولة كل حين في سياق الإعداد لمغرب ما بعد دستور 2011”. كانت الجماعة على الدوام واثقة من صوابية تقديرها للموقف السياسي الداخلي، صريحة في تسمية مواطن الاختلال بأسمائها، غير متحمسة لقبول تشخيصات جاهزة ومناورة دون الحقيقة. ولعل الأحداث المتسارعة التي نعاين أطوارها ما بعد تاريخ السابع من أكتوبر تدعم أرجحية الشك في حقيقة هذا النظام ونواياه التحكمية بل الاستئصالية في حق معارضيه؛ والتي ترددت، على وجه الإجمال، بين المنع من المجال العمومي والحرمان من الحقوق الأصيلة، وبين التضييق على أنشطة ونسفها، وصولا إلى تلفيق التهم وفبركة القضايا الكيدية على النحو المعهود في أغلب الأنظمة الاستئصالية.
على ذات الطريق الشاقة، طريق المنع والتضييق والإقصاء الممنهج، راكمت الجماعة سجلات من المظالم السياسية والحقوقية والأخلاقية التي امتدت لنصف قرن، واستهدفت الجماعة، في كل دوائرها التنظيمية صعودا ونزولا، بشتى الأسلحة. والظاهر أن المخزن قد اهتدى في بحر الأسبوع المنصرم لمسلك انتقامي لم يطرقه من قبل؛ وهو سلوك الاغتيال المهني في حق رموز الجماعة وأطرها العاملة في أكثر من قطاع حكومي، في صيغة مراسلات قضت بإعفاء هؤلاء من مهامهم ووضعهم “رهن الإشارة”. جدير بالذكر هنا أن كل قرارات الإعفاء التي صدرت في حق هذه الأطر الإدارية والتربوية لم تأت على ذكر أي مستند قانوني يثبت ارتكابهم “لمخالفات إدارية أو مهنية أو ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي، أو ثبوت عجزهم عن القيام بمهامهم أو ثبوت سوء التسيير والتدبير، وذلك بواسطة تفتيش موضوعي ينجز لهذا الغرض”. وعليه، يكون قرار الإعفاء من المهام وجها من أوجه الشطط الصريح في استعمال السلطة، التجأت إليه الدولة من باب السلوك الكيدي الانتقامي ودون مسوغ قانوني، والمعلوم أن سلوكيات الدولة إزاء الجماعة نادرا ما تسوغها الدواعي القانونية.
هو فصل جديد من كتاب المظالم، يدشنه المخزن فيما يمكن اعتباره “تصفية حساب” بأثر رجعي ورسائل استباقية، في حق هذا التنظيم العنيد والممتد الذي لا شك في كونه قد اجتهد كثيرا في إنهاك الأجهزة المخزنية بمواقفه المعارضة والمتمنعة في صفوف جبهة الرفض الشعبي؛ إذ من الراجح أن المخزن قد ضاق ذرعا بأدوار الجماعة والمواقف التي مالَأَتْ من خلالها الفئات الشعبية المستضعفة واصطفت إلى جانبها في مسلسل المقاومة المدنية السلمية؛ لم ينس المخزن معركة الطلبة الأطباء والأساتذة المتدربين ولا حراك العشرين من فبراير ولا حراك مدن الشمال ضد تغول شركات التدبير المفوض ولا انحسار نسبة التسجيل في اللوائح الانتخابية وتهاوي نسبة التصويت في الموعدين الأخيرين. لا شك أن المواقف التاريخية التي تبنتها الجماعة تجاه هذه العناوين قد أربك المخزن ونسف كل مخططاته ورفع من حرج الموقف لديه. فأضحى لزاما أن تحرك الدولة المخزنية أدوات الردع المعهودة من جانبها على طول المدى بما يساعد على لجم هذا التنظيم ودفعه نحو الانكفاء.
سياق الحرب الشرسة هذا ينبئ كذلك بعزم الدولة الوشيك على النزول بحزمة جديدة من الاختيارات الاجتماعية والحقوقية المؤلمة شعبيا. وهي الآن في وارد التمشيط الميداني لأرض معركة قد تكون فصولها حادة وتداعياتها عكسية إذا ما حافظت الجماعة على كامل لياقتها. وربما بدا في التقدير المخزني أن الجماعة ستفقد كثيرا من جاهزية المواجهة وهي تتلقى ثلاث ضربات متتالية قد تكون قاتلة؛ ترسيب الأساتذة المتدربين، وإقصاء نظرائهم من المتعاقدين المنتسبين للجماعة، ثم إعفاء الأطر مع ترك الحبل على الغارب. أما من زاوية تقدير الجماعة فالأمر – على خطورته – لا يعدو كونه دليلا إضافيا على صورية المؤسسات التي يدعي المخزن مرجعيتها واستمرار هويته الاستبدادية وعبثية مسلكياته. ثم إنه في نهاية الأمر مظلمة من مظالم الطريق الشاقة.
الآن وقد أبدت دولة المخزن تحللها الصريح وشبه الكلي من شعارات الأمس حول دولة القانون، وسقطت في دائرة الكفر بكل العناوين الواعدة التي دبجت بها دستور 2011، وساهمت على نحو مكشوف في الانقلاب على مخرجات المسار الانتخابي الصوري – على علاته – ماضية بالوطن نحو المجهول، فهل تعي النخب المدنية والسياسية حساسية المرحلة؟ وهل تقبل باختبار منظار الجماعة للوضع السياسي؟ أسئلة آخذة في الإلحاح، لا تقبل الإرجاء.