للأستاذ عبد السلام ياسين إنتاج شعري قيم ينم عن اهتمام بالغ بالأدب، ووعي بوظيفته الدعوية، وهذا ما عبر عنه صراحة في مقدمة نفيسة تعد من عيون النقد الأدبي الإسلامي الحديث صدّر بها ديوانه الموسوم بـالمنظومة الوعظية)، بث خلالها أراءه إزاء مصطلح “الأدب الإسلامي” ومفهومه وقضاياه التي شدت انتباه رواد هذا الأدب.
1- مصطلح الأدب الإسلامي ومفهومه
كثيرا ما كان هذا المصطلح محل أخذ ورد من قبل المعترضين عليه بدعاوي مختلفة تردها جميعا غاية التسمية وهدفها النبيل المتمثل في مزايلة آداب الآخرين، فما كان ينعت أدب توارثه المسلمون بنعت إسلامي، ولا مست الحاجة إلى تميز، قبل أن تجتاح المسلمين أعاصير الحداثة الإلحادية، وقبل أن تنشأ أجيال الدعوة الإسلامية متطهرة من الأرجاس…) 1 .
فالتخوف الذي يبديه بعض الصادقين من معارضي نعت “الإسلامي” لا يصمد أمام هذه الغاية النبيلة، وإلا فكيف يَميز أدب تشرب معاني الإيمان صافية رقراقة من نبع كتاب ربه وسنة نبيه عن خليط من الآداب تتدثر بشتى صنوف الإعراض عن النبعين الكريمين، مولية وجهها شطر الغرب والشرق وما يقذفانه من مذاهب ومناهج وأفكار ظاهرها التجديد وباطنها التكذيب.
نعم لم يكن هذا الأدب في حاجة إلى تسمية لما كان لسان حال المسلمين جميعا هو الإسلام الصحيح مع بعض الهنات التي تقدر بقدرها، أما اليوم وقد انسلخ جمهور من الأدباء عن سراط الله الذي له ما في السماوات والأرض، وانضووا تحت رايات عميات بمزاعم مختلفة فإن الأديب المسلم الحق مدعو إلى التميز اسما ونسبا.
2- وظيفة الأدب الإسلامي
الأدب وسيلة من وسائل التربية، ومن واجبه ألا يترفع عن هذه المهمة النبيلة مجاراة لمطالب فلسفة دخيلة تجعل من الفن غاية، وترى في اعتباره وسيلة حطا من قدره، وإزراء به. فالأدب الإسلامي على هذا الأساس كلمة لها مغزى تحمل معنى، تبلغ رسالة، لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك) 2 .
وليقوم الأدب الإسلامي بهذه الوظيفة على الوجه المطلوب عليه أن يقف صفا متراصا خلف كلمة القرآن والبلاغ النبوي) 3 ، لا يبغي عن ذلك حولا، وجوهر دعوتهما تبليغ النبإ العظيم للناس، نبإ المعاد وخبر الآخرة وما بعد الموت 4 .
وللأدب الإسلامي أن يتدرج في الوصول إلى هذا الجوهر من رسالته، وأن يلتمس الطرق المناسبة لطبيعته، دون أن يزيغ عن ضوابط القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.
3- الأدب الإسلامي شكلا ومضمونا
ما دام الأدب الإسلامي وسيلة للتبليغ فضابطه الأساس أن لا يضيّع المضمون جريا وراء الجمالية والصنعة والتنميق الفني) 5 ، وله أن يجتهد بعد ذلك في أن يأخذ من العصر وسائله، ويروضها، ويتزين بزينة الله، ويتلطف في الأخذ بالأشكال المشروعة من أدوات التعبير العصرية 6 .
إن التوفيق بين صدق المضمون وجمالية الشكل عمل ليس بالهين، ذلك أن الجمالية مدخل من مداخل النفوس فإذا استهوى الأدب الجمال، وركن إليه دون يستحضر رسالته السامية، فإنه يميل إلى الدنيا وينسى خبر الآخرة، فيكون قرية ظلمت ولم تؤت أكلها، وعقت والديها وأهلها) 7 .
وقد كان هذا مصير كثير من آداب الدنيا وبعضها منتسب إلى الإسلام اسما ولقبا، ولكنه دان بالولاء إلى الموضة وتجارة الإعلام، فأصبح قاعا صفصفا، وزج به في دهرية متأنقة ردمت فيه الفطرة 8 النقية الطاهرة.
4- الأدب الإسلامي والوعظ
هل الأدب الإسلامي بريء من الوعظ؟ وهل الوعظ نقيصة في الأدب؟ هذا ما لم يخطر ببال أسلافنا الأجلاء وهم يخطون عيون المنظوم والمنثور من الأدب، لأنهم كانوا ينطلقون من كلام ربهم الذي شرف الوعظ واعتبره السبيل الأمثل لتبليغ كلمة الله إلى الخلق، قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن 9 ، وكرر القرآن كلمة موعظة بأكثر من خمسة مواضع، لكن كثيرا من أدباء اليوم ينفرون من سمة الوعظ، ويرونها منقصة من الفن والأدب، وقد تسرب هذا إلى بعض دعاة الأدب الإسلامي وهو ما يهدد رسالية الأدب الذي يدعون إليه.
وقد عمل الأستاذ على تفنيد المزاعم حين سمى ديوانه “المنظومة الوعظية” بهدف إرجاع الأمور إلى نصابها، والتذكير بأصالة الوعظ في الأدب، وقال محاججا: شاعر رقيق الحاشية يحتج أن خلطت أجناس الخطاب، للوعظ منابره وخطابته، وللأدب والفن والشعر مجاليه، فما يجعل الأدب وعظا، ويقلب الوعظ أدبا؟…) 10 ، وبلسان التواضع النادر بين أدباء اليوم يوضح سبب هذه التسمية: إن كنت سميتها منظومة وعظية فلقصوري عن تعطير نظمي بشذى شعري، ولقصوري عن بث النكهة المنعشة من استعارة خفيفة، وإشارة لطيفة في متن نظمي) 11 .
لكن هذا لا يعني مطلقا أن الوعظ يضعف الأدب، وينأى به عن الجمالية، ذلك أن نماذج النصوص الإسلامية قديما وحديثا شاهدة على تلاؤم عجيب بين الوعظ والجمال، وهو ما وجده الأستاذ عند إخوانه فقال: وحسبي أن تجد الكلمة الإسلامية في فرسان البلاغة وشعراء الرقة والذوق من يسعف الخطاب الإسلامي والشعر والفن والأدب ليخرجه من ضبابية تزج بالخطاب والفن والشعر في أجواء عفة عن قول الحق بالبيان القرآني…) 12 .
5- شخصية الأديب المسلم
الأديب المسلم إذن فارس مجاهد بالكلمة الجليلة الجميلة الخاشعة لجلال ربها، وسمة الجهاد لا تنفك عن ملامح شخصية الأديب التي رسمها الشيخ ضمن فقرات المقدمة النفيسة، جهاد أوثق حين يظل وفيا للرسالة الربانية المنوطة به.
والأديب المسلم إذ يجاهد بلسانه ينبغي أن يحطم قيود التهم الجاهزة، ويقهر الخوف والتردد أن يصم أدبه بالغرابة والبدائية والكثافة والسخافة إن تحدث بلغة القرآن وبيان الوحي عن الموت والدار الآخرة، وعن الجنة والنار، وإن تحدث هجوما مباشرا خليا من رقة التشبيه وغواية الاستعارة، وخفقة جناح الخيال…) 13 .
ذلك أن رسالة الإسلام لا يحملها أديب ينشد الدنيا ويبالغ في طلبها ويتدثر بضبابية في التصور والموقف، وإنما يحملها أديب ذو رؤية واضحة شفافة وضوح حقيقة مَن أنا المتكلم الشاعر الأديب الفنان…) 14 .
أما ذاك الأديب المسلم اسما ولقبا، المُكِنّ العداء للإسلام عقيدة، المعلن الحرب على القيم والأصول والتراث نظما وشعرا فإنما هو دمية برمجوها بتربية ودجنوها وعلفوها، فهي تنطق سفها وتلتهم طعام المعلم المبرمج شرَهاً) 15 .
ويبقى جوهر الأدب الإسلامي عند الأستاذ عبد السلام ياسين جسدا وروحا، نصا وإنسانا، هو خدمة الإسلام، ونشر دعوته إلى الناس، دعوة مرتكزها التذكير بلقاء الله والدار الآخرة، ترغيبا وترهيبا، مستمدا من كتاب الله وسنة نبيه غذاءه الروحي شكلا ومضمونا.
[2] المصدر نفسه، ص 15.\
[3] نفسه، ص 8.\
[4] نفسه، ص 10.\
[5] نفسه، ص 26.\
[6] نفسه، ص 15-16.\
[7] نفسه، ص 27.\
[8] نفسه، ص 18.\
[9] النحل، الآية 125.\
[10] المنظومة الوعظية، ص 25.\
[11] نفسه، ص 25.\
[12] نفسه، ص 25-26.\
[13] نفسه، ص 8.\
[14] نفسه، ص 26.\
[15] نفسه، ص 18.\