معالم الشراكة الأسرية في ظل الحجر الصحي

Cover Image for معالم الشراكة الأسرية في ظل الحجر الصحي
نشر بتاريخ

تقديم

إن عظمة هذا الدين تنبع من اهتمامه بتأسيس مجتمع أخوي يسوده الاستقرار؛ يبدأ من تكوين أسرة متعاونة على أساس المودة والرحمة، والحب والاحترام المتبادل. فمضمون الشراكة التي تعمق لدى الزوجين معنى الآخرة تبقى ممتدة إلى دار الخلود، تنعكس إيجابا على فلذات أكبادنا، فتقر أعيننا بهم في الدنيا والآخرة.

فما هي معالم الشراكة التي ننشدها في بيوتنا؟

أولا: الشراكة العاطفية 

قال الله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها (1).

يعد السكن العاطفي مدخلا أساسيا في أية علاقة زوجية، يبني لنا شراكة عاطفية ونفسية ووجدانية، يدخلها الطرفان بنية الاستمرار.

أحيانا يغيب هذا الأساس عن أذهان الزوجين، أو يهملاه بعد فترة من الزواج، فيعتادان على حياة رتيبة تصبح فيها العلاقة بينهما خالية من كل المشاعر، وإن وجدت، تبقى حبيسة الأفئدة.

في ظل هذا الحجر الصحي لابد للزوجين أن يقفا وقفة تأمل لمراجعة الثغرات، والوقوف على العقبات التي تحول دون تحقيق هذه الشراكة، قصد تصحيحها والرقي بها نحو الأفضل. 

فالعلاقة الزوجية بين الطرفين لن تكون لها أية قيمة إن لم يستقر بوعائها السكن النفسي، والـــود المـــتصل، والتراحم الحاني، لتحقق لنا (المحبة الخالصة التي يرجى لها أن تنمو بعد الزواج فتلتحم بلحام الرحمة والمودة والمخالقة والصبر) (2).   

كانت الشراكة العاطفية مبثوثة في الحياة الزوجية للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ممتدة زمانا ومكانا، في الحضر والسفر، داخل البيت وخارجه، غير محصورة في غرفة النوم، يعبر عنها أحيانا بالكلمة الطيبة (كنت  لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك) (3)، وأحيانا باللمسة المباركة، وأحيانا أخرى بالنظرة التي تقر بها عينه صلى الله عليه وسلم.  

ثانيا: الشراكة الإيمانية 

ستنحرف البوصلة ولن يكتمل البناء إن ظن الزوجان أن الشراكة العاطفية والسعادة الجسدية متعة غير متصلة بالله، (من قرأت في منة سكون الزوج لزوجه مجرد متعة دنيوية منفصلة عن دلالة خلق الله الذكر والأنثى فهي غافلة) (4). لابد للأساس النفسي والعاطفي أن يترعرع في بيئة إيمانية بمعية صحبة مباركة، تكون للزوجين سندا في سلوكهما إلى الله عز وجل، ورافعة تعينهما على طاعة الله ومرضاته وتذكير كل طرف للاستعداد للآخرة، وذلك بالحرص على قراءة القرآن معا والصيام معا وقيام الليل والتفقه في الدين معا؛ (مَنِ اسْتَيْقَظَ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) (5). 

كلها أعمال فاضلة تنقل الزوجين من شراكة إيمانية إلى عبادة جماعية ينخرط فيها الكبير والصغير والذكر والأنثى ويتشربها النشء لتقر به الأعين؛ (يجمع شملهم الطهر والإيمان والرحمة والمودة في الدنيا لتسعد رحلتهم في الآخرة) (6)، فيقال لهــمــا يوم القيامـة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (7).

ثالثا: شراكة تدبير شؤون البيت وتربية الأبناء 

لا يمكن لهذه الشراكة أن تسير بشكل سليم إن لم يكن هناك اقتناع داخلي بكفاءة الطرف والشريك الآخر، والتنازل المطلق عن الأنانية المستعلية لمصلحة الشراكة. إن ما يصيب الحياة الزوجية من جفاء ونفور ناتج عن تمسك كل من الطرفين بأنانيته وتحقيق رغباته، وعدم الوعي بمفهوم الشراكة في إطارها التكاملي لا التقاسمي. فالمقصد الأسمى من التعاون في تدبير شؤون البيت هو تقديم الدعم للمرأة  وتخفيف الضغوط عنها، حتى تشعر أن الزوج يقدر تعبها في أعمال البيت. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بهذا النوع من الشراكة اهتماما بالغا كما أخبرتنا أمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن عمله في بيته فقالت: (كان في مهمة أهله يخيط ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته ويخدم نفسه) (8).

فلن (يتم السكون والمودة والرحمة في البيت إذا كان وقت المرأة لا يحترم، واذا كانت المشقات والخدمة في البيت لا يتعاون على حملها الرجل والمرأة) (9).

فالحمل الثقيل مسؤولية مشتركة  تتعدى تدبير شؤون البيت إلى مستوى التخطيط الأسري وتربية الأبناء بنسب متفاوتة، فقد تكون وظيفة الأم أكبر من وظيفة الأب في مرحلة معينة أو في ظروف خاصة، وقد تكون وظيفة الأب أكبر من وظيفة الأم في مراحل معينة أو في ظروف خاصة، لكن كل ذلك في إطار توزيع الأدوار بشكل عقلاني، وليس استنساخها بشكل هجين. 

ما بعد الحجر الصحي: شراكة دعوية 

حينما تلبى الاحتياجات الفطرية والعاطفية للزوجين، وتنمو  في بيئة إيمانية بمعية صحبة مباركة، يوقظ الحق سبحانه وتعالى في هذا البيت همة ونشاطا وحيوية، يقطع أصحابه مع القعود الخامل، والغفلة عن الله، والعادات الجارفة، ليتحول إلى قبلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وينتقل كلية (من رقم في أحياء إلى أرقمية في إحياء الأحياء بالقرآن والذكر والعلم والسنن، وإيواء يتامى الروح وإطعام الطعام، وصلة الأرحام وإكرام الضيوف والزوار) (10).

قال الحق سبحانه وتعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (11).

البيوت المطمئنة أمة مصغرة من الأمة الكبيرة، استقرارها أساس دعوتها، ولبنة في بناء العمران الأخوي المنشود.

بعد الأخذ بكل هذه الأسباب، لا بد لنا من الوقوف بباب الله عز وجل، والتضرع بين يديه لكي ندعو بدعوة الصالحين المتقين، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما (12).

في  الآية الكريمة بشارة من الحق سبحانه وتعالى بمركزية الدعاء وأهميته في الاستقرار الأسري، بحيث خص به دون غيرهم (عباد الرحمن مستقرين أزواجا في أسرتهم مع ذرياتهم، من فضائلهم الحميدة وأخلاقهم المجيدة وعبادتهم الرشيدة أنهم يدعون ربهم هنا في الدنيا) (13).

الدعاء أولا ووسطا وأخيرا، ثمرته المرجوة لابد لها من مقدمات ومسببات تمكننا من قطف ثمار السكن المستقر وقرة العين في الدنيا قبل الآخرة، وتجعل من الطليعة المجاهدة أئمة للمتقين.


1- سورة الأعراف، الآية: 181.

2- عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 76.

3- صحيح البخاري.  

4- تنوير المومنات، م. س. ص 173.

5- صحيح البخاري. 

6- تنوير المومنات، ص 142.

7- سورة الزخرف.

8- صحيح البخاري.  

9- تنوير المومنات، ج 2، ص 162.

10- منير ركراكي، معالم في طريق الاحتضان والتأهيل والتخليق.

11- سورة آل عمران، 104.

12- سورة الفرقان، 74.

13- تنوير المومنات، ج 1، ص 14.