معالم المشروع المجتمعي للجماعة وتحدّياته.. حوار ممتع مع الأستاذة أمان جرعود

Cover Image for معالم المشروع المجتمعي للجماعة وتحدّياته.. حوار ممتع مع الأستاذة أمان جرعود
نشر بتاريخ

فيما يلي نص الحوار الذي أجرته بوابة العدل والإحسان مع الأستاذ أمان جرعود، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية، حول موضوع “المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان”، والذي يأتي ضمن سلسلة “قضايا وتصورات.. حوارات في ‘العدل والإحسان'”، التي أطلقتها البوابة في سياق تخليد الجماعة للذكرى الأربعين لتأسيسها.

الحوار غني بالأفكار والمقترحات، وصريح في طرح العديد من القضايا والملفات: معالم المشروع المجتمعي للجماعة، مرجعيته وغاياته النهائية، طبيعة الدولة المنشودة ومرتكزاتها، البديل السياسي المرحلي، مداخل إصلاح التعليم، ممكنات تأسيس علاقة أفضل مع المحيط الدولي، تدبير العلاقة مع الشركاء والمشاريع الأخرى في الساحة، موقع الدين من الدولة ومكانته في الفضاء العام…

ندعوكم إلى فسحة من التأمل والتحليل والاقتراح عبر هذا الحوار.

ما المعالم الكبرى للمشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان؟

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.

لا يمكننا الحديث عن جماعة العدل والإحسان ولا عن مشروعها المجتمعي دون ربط ذلك بمؤسس الجماعة وصاحب المشروع، إذ لا يمكن بحال فصل المشروع عن صاحبه؛ الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه.

فقد كان رحمه الله قامة من قامات الأمة، اجتمع فيه ما تفرق في غيره فضلا من الله ومنة، فهو المربي والمفكر والمنظر والقائد ولا نزكي على الله أحدا. قضى سنين ذوات العدد وهو يجيل النظر في معارف الوحي ومعارف العقل، وأسهم إسهاما متميزا في إحياء الفكر الإسلامي المعاصر من خلال مشروع مجتمعي يمتاز بعمق النظر ووضوح الرؤية وشمولية الطرح وتكاملية الأبعاد وانفتاح الأفق. مشروع امتزج فيه جهد القلب والعقل ليكون خراجه نظرية متكاملة في التغيير بمنهجية رصينة ومفاهيم أصيلة شكلت مرجعية للفكر والفعل لدى جماعة العدل والإحسان التي حملت هذا المشروع في كلياته وآمنت بمبادئه ومرتكزاته، وسعت إلى تجسيده في سلوكها وحركتها على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.

ومشروع بهذه المواصفات تصعب الإحاطة به في بضعة أسطر، لكن حسبي من القول أنه مشروع قائم أساسا على تحريك بواعث الإنسان ليطلب ما عند الله تعالى ويفوز برضاه، وعلى تحريك بواعث الأمة وتجميع طاقاتها لتنهض من غثائيتها ووهنها وتسترجع خيريتها وعزتها، من خلال قراءة تشخيصية تحليلية لأدواء الأمة وأزماتها؛ تزاوج بين التشخيص والاقتراح وبين التنظير والتنزيل. وأيضا من خلال عملية مركبة يمتزج فيها الوعي التاريخي بالوعي الواقعي وبالوعي الاستراتيجي. وعي تاريخي هو المقدمة الأساسية والشرطية لفهم أزمات اليوم والعمل على تجاوزها، حيث قدم قراءة فاحصة لتاريخ المسلمين ناقدة للحظات الانحراف وناظرة في مواطن الحكمة والعبرة فيه. وفي هذا السياق يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: سيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد الأحداث وآثارها على مسارنا التاريخي وتجلجلها في الضمائر عن وعي في تلك العهود.

قدم أيضا قراءة دقيقة للواقع وقارب أزماته وإشكالاته بكل تحدياتها وتعقيداتها، دون أن يركن أو يرتهن إليها، بل اقترح مغالبتها من خلال منهاج عملي واضح يحيي القلوب ويحرر العقول ويبعث الإرادات.

لقد حاول هذا المشروع المجتمعي رسم المعالم الكبرى لطريق يراه موصلا إلى حيث يلتقي قصد الله الشرعي مع قصد الله الكوني في عمران تتوثق روابطه بأواصر المحبة والأخوة والرحم الإنسانية، وهو مشروع منفتح على التطوير والتجويد بما لا يتعارض مع أصوله ومنطلقاته ولا يصادم أهدافه وغاياته.

ماهي الخلفيات الفكرية التي يستقي منها هذا المشروع رؤيته ومنطلقاته؟

بغض النظر عن اصطلاح “الخلفيات الفكرية” وإلى أي حد يمكنه استيعاب المنابع والمرجعيات التي استند إليها هذا المشروع واعتمدها في بناء رؤيته ومنطلقاته. بغض النظر عن هذا، فإن أي مشروع فكري أو مجتمعي في حاجة إلى مرجعية تسنده وتفرض نفسها بقوة في بنائه النظري وجهازه المفاهيمي، والمشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان ليس استثناء من هذا، فبالرغم من الروافد المتعددة التي نهل منها، حيث انفتح على التاريخ الإسلامي تدقيقا وتحليلا ونقدا، وغاص في المعارف الإسلامية ومدارسها الفكرية والمذهبية، وانفتح على التجارب البشرية مستفيدا من الحكمة أنى وجدها، إلا أنه جمع شتات هذه المعارف وعرضها على مصفاة الوحي؛ فلا يتيه القارئ أمام كثرة الروافد. وقد كان هذا الاحتكام إلى مرجعية ناظمة وضابطة سببا في تماسك هذا المشروع وقوته. وعليه يمكننا القول بأن مرجعية الوحي قرآنا وسنة، هي نقطة الارتكاز والأرضية الأساس التي قام عليها المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان، ليس فقط في بناءه الفكري والنظري بل أيضا في لغته وألفاظه؛ ليحصل الانسجام بين الفكرة واللغة الحاملة للفكرة. هذا الارتكاز على مرجعية الوحي هو ما أكسب المشروع أصالته ونسقيته.    

ما الغايات النهائية لهذا المشروع؟

لئن كانت الرجة الكبرى التي عرفها تاريخ المسلمين إبان الفتنة الكبرى قد أحدثت شرخا وقطيعة بين ما كان موصولا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة، حيث تلاحم العدل والإحسان وقدما نموذجا فريدا استطاع في زمن قياسي أن يبسط سطوته على القلوب قبل الأرض. لكن سرعان ما غاب العدل وتوارى الإحسان وبعدت الشقة بينهما عبر تاريخ المسلمين.

ولعل طموح مشروعنا المجتمعي هو إعادة الوصل بين العدل والإحسان باعتبارهما مقصدي الدين وأم القضايا وأبوها دنيا وأخرى، بهما أمر الله تعالى أمرا صريحا مباشرا: إن الله يأمر بالعدل والإحسان. وقد كان الإمام رحمة الله عليه واضحا في الجواب على سؤال الغاية حين قال: لا ترضى جماعة العدل والإحسان بهدف اجتماعي سياسي دون العدل على شريعة الله ولا ترضى بغاية تتطلع إليها همم المؤمنين والمؤمنات دون الإحسان. فهما مقصدان كليان، مقصد العدل ومقصد الإحسان، وغايتان جامعتان الغاية العدلية والغاية الإحسانية.

الغاية العدلية بما يعنيه العدل من حفظ حق الأمة في اختيار من يحكمها وبما يعنيه من حفظ كرامة الإنسان برعاية مصالحه المادية واحتياجاته الحياتية، وبما يعنيه من إنصاف الناس مِن كل مَن يعتدي على حقوقهم ويستقوي عليهم بسلطته أو جاهه أو ماله. والغاية الإحسانية بما يعنيه الإحسان من تدرج في معارج الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا وهبة قلبية تنقل العبد من الغفلة إلى اليقظة، وبما يعنيه من حسن خلق يؤلف القلوب ويبشر بمنهاج الرفق والرحمة، وبما يعنيه من إتقان وتجويد لكل عمل مهما قلّ أو صغر.    

كيف الوصول إليها؟

في الساحة الفكرية مشاريع عدة حاولت أن تخضع واقع الأمة للدراسة تشخيصا وتحليلا، ومنها من خاض غمار الاقتراح وتطوير البدائل. لكن قلة قليلة منها من انتبهت إلى سؤال الكيف باعتباره شرطا في التحول والانتقال نحو المستقبل المنشود. ولئن كان المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان مهتما برصد أعطاب الواقع وتفكيك أزماته ومعرفة أسبابها والمتسببين فيها، ومنفتح على الأفق استشرافا واقتراحا، فإنه في الآن نفسه قارب سؤال الكيف وبحث في منهاجه وطرائقه، تتبعه وهو يرصد مسار انحدار الأمة، وحاول توضيح معالمه وهو يرصد مسار نهضتها. ولا يسمح المجال هنا للتوسع في منهاج العمل التفصيلي وسأكتفي بالإشارة إلى أهم المداخل التي ركز عليها مشروعنا المجتمعي لتحقيق غاياته الكبرى والتي يمكن إجمالها في المدخل التربوي تأكيدا على أهمية التربية ابتداء وانتهاء، تربية تحيي في القلب معاني التقرب إلى الله تعالى وإخلاص العمل له والفرار إليه في كل وقت وحين؛ من خلال محطات منتظمة وبرنامج تربوي يومي يهذب النفس ويصقل الروح ويربي على رقابة الله تعالى واستحضار معيته، سيرورة تربوية دائمة ومتواصلة لا تنقطع حتى نلقى الله تعالى وهو عنا راض. وأيضا المدخل السياسي صدعا بالحق وقياما بواجب النصح ونصرة المستضعفين، ومقاومة الظلم والظالمين والفساد والمفسدين، من خلال تصور واضح للفعل السياسي في منطلقاته وغاياته، متجدد في وسائله وأدواته منفتح على ما يحتاجه الفعل السياسي من مرونة وتدرج يراعي خصوصية المراحل ولا يحرقها أو يقفز عليها. بهذا يكون التصور عاصما للحركة من الانفلات وتكون الممارسة رافدا لتطوير الفكرة وصقلها. ثم هناك المدخل العلمي الاجتهادي الذي يسعى لتحرير العقل المسلم ليكون عقلا مرحوما، تتعاضد فيه معارف الوحي مع معارف الكون، ويجمع شتات العلم من أطرافه ليرسم معالم فقه جامع يجيب على أسئلة زمانه دونما إغفال لسؤال المعنى.

دون تلكم الغايات أيضا عقبات وتحديات ما أهمها وكيف تواجهونها؟

إن أي تغيير إلا وتعترضه عقبات تحد من حركته أو تبطؤها، والمشروع المجتمعي الذي تحمله جماعة العدل والإحسان لا شك تمانعه عقبات عدة وتحول بينه وبين تحقيق غاياته. ولعل أهمها من وجهة نظري يتمثل في:

– منظومة الفساد والاستبداد ودائرة الولاءات المحيطة بهما القائمة على المصالح المشتركة.

– الاتجاهات المعادية للدين سواء كانت اتجاهات سياسية أو فكرية، عداء أعمى يحجب عنها كل إمكانات التعاون والالتقاء ويجعلها تتحالف مع أي كان من أجل القضاء على الدين ورموزه.

– القوة السالبة في الأمة والتي تجدرت نتيجة قصف ممنهج ممتد في الزمن، استهدف منها كل مواطن العزة والأنفة والإقدام وجعلها رهينة لعافية الطاعم الكاسي.

أما عن كيفية مواجهتها فقد وردت الإشارة إلى ذلك في السؤال السابق، لكن يمكن القول بأن اقتحام هذه العقبات ومحاولة تطويعها لن يتم إلا من خلال مسارين أساسيين، مسار بناء الإنسان قلبا وعقلا وإرادة، ومسار بناء التحالفات وتوسيع مساحات التعارف والتعاون مع كل الغيورين وذوي المروءات والإرادات الحرة سعيا لتغيير ميزان القوى لصالح إرادة التغيير.

مما تسعون إليه تحرير الدولة من قبضة الاستبداد لتكون في خدمة الأمة. كيف ذلك، بثورة أم انقلاب أم قومة أم عملية سياسية… أم غيرها؟

أي حركة حاملة لمشروع تغييري، لابد وأن يكون لديها جواب واضح على سؤال الكيف. وبالعودة إلى الإطار المرجعي الذي تستند إليه الجماعة في حركتها وفعلها السياسي، فإنه لم يكتف بتوضيح معالم التغيير السياسي الذي يصبو إليه، بل عالج طرائقه وأسلوبه وأدواته. وهنا لا بد من التأكيد على ضرورة فهم المشروع السياسي للجماعة في سياق مشروعها الفكري الكلي، حتى لا نقع في مطبات التجزئ والاختزال الذي يفضي بنا إلى سوء الفهم لعدد من القضايا والمفاهيم، فحين نضع الجزء في نسقه الكلي سندرك أننا بإزاء حركة دعوية السياسة بعض شأنها، وأن ممارسة العمل السياسي ليس غاية عندها بل هو وسيلة لتحقيق غايات روحية وأخلاقية، وأن موقفها المعارض للسلطة السياسية القائمة هو واجب شرعي قبل أن يكون اختلافا حول تدبير الشأن العام.

ومن المفاهيم التي طالها سوء الفهم هذا؛ مفهوم القومة، حيث نجد قصورا كبيرا في إدراك مشمولات هذا المفهوم القرآني، فالقومة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه مفهوم متعدد الأبعاد لا يشكل البعد السياسي إلا واحدا منها. ولعل أهم بعد في بناء هذا المفهوم هو البعد القائم على تغيير حوافز الفرد وبواعثه ليقوم بمهمات الاستخلاف التي انتدبه الله تعالى لها. فالقومة حركة هادئة رحيمة ممتدة في الزمن تشمل الفرد والجماعة والأمة، وتتظافر جميعها لصناعة شروط التغيير المنشود.

ومن يقرأ القومة خارج هذا النسق سيجني على المفهوم وعلى المشروع الحامل لهذا المفهوم. ومن يفهمها بغير هذه الأبعاد مجتمعة يوشك في أحسن الأحوال أن يجعلها لفظا مرادفا للثورة وهذا أيضا غير صحيح. إذ ما يتهدد الثورات من عنف وفوضى وانتقام هو خط أحمر يتعارض كلية مع غايات القومة ومقاصدها. أما مفهوم الانقلاب فلا مكان له في منهاجنا، فالانقلابات كما تعلمون لها خصائصها، ومن أهم هذه الخصائص خاصية الفجائية والسرية واستعمال العنف أو التهديد باستعماله، وهي خصائص مناقضة لمبادئنا وتصورنا.

وعليه فنحن لا نرى بدا في سياقنا الحالي من عملية سياسية تقود نحو التحول الذي يجيب على تطلعات المغاربة، تحول مدخله حوار وطني مفتوح يفضي بنا إلى التوافق حول مبادئ كلية واختيارات جامعة تجسد إرادة العيش المشترك وترسم ملامح المغرب الذي نريد في ميثاق جامع، ثم بعدها وضع دستور تقترحه جمعية تأسيسية منتخبة وتعرضه على الشعب ليقول فيه كلمته الأخيرة باعتباره صاحب السيادة ومصدر السلطة. 

حين تخلّصون الدولة من قبضة التسلط، ما النموذج الذي تودون صياغته وبناءه؟ وما موقع الدين من الدولة والشأن العام؟

التغيير عموما ليس مطلوبا لذاته بل هو مطلوب لوجود حالة من عدم الرضا وحالة من الرفض لواقع معين تقابلها رغبة في الانتقال إلى حالة مغايرة تحوز الرضا والقبول. وعليه فإن الدولة المنشودة أو النظام السياسي المنشود ينبغي أن يتجسد فيهما النموذج المنشود. ولطالما عبرنا عن انحيازنا إلى نموذج الدولة المدنية الديمقراطية المنضبطة لمقتضيات التعاقد الدستوري المعبر عن الإرادة الشعبية والمعبِر عنها، ولمقتضيات دولة الحق والقانون وما تعنيه من مساواة الجميع أمام القانون واقتران المسؤولية بالمحاسبة وحماية الحقوق والحريات. دولة منضبطة لقواعد التعددية وحق الاختلاف. دولة لا ترهبها قوة المجتمع بل تسعى لحماية هذه القوة وتحصينها. دولة قادرة على فرض هيبتها، وهنا لابد من التمييز بين الهيبة والهيمنة التي تحققها من خلال تمددها على حساب حقوق الناس وحرياتهم ومصالحهم، كما يلزم التمييز بين قوة الدولة وعنفها، إذ القوة شيء مطلوب تحمي المصالح وتحقق أدوار الدولة الخدماتية والرعائية، وهو ما يصنع الولاء الحقيقي، أما العنف والقهر فلا يصنع إلا دولا رخوة ومهزوزة تحتمي وراء الآلة القمعية. هذا هو نموذج الدولة الذي نطمح أن يعيش المغاربة في ظله يوما ما ونسعى مع باقي الفاعلين من أجل صناعة شروطه.

أما الشق الثاني من سؤالك والمرتبط بموقع الدين من الدولة والشأن العام، فالإجابة عنه لابد أن نستحضر فيها أمرين أساسيين. أولهما مرتبط بطبيعة المجتمع المغربي، فهو مجتمع مسلم أو لنقل غالبية سكانه مسلمون، وهو ما يفرض انعكاس هذه المرجعية في قيم الدولة وتشريعاتها. طبعا هذا الأمر فيه تفصيلات كثيرة تحتاج إلى تدقيق لا يتسع المجال للخوض فيها من قبيل إعمال البعد المقاصدي للدين وتفعيل الاجتهاد الجماعي وغيرها من القضايا المهمة والتي ترسم مساحة هذا الحضور وأشكاله. الأمر الثاني مرتبط بطبيعة الدين الإسلامي فنحن بإزاء دين ينتظم كافة المجالات بما فيها المجال السياسي، وعليه فالمؤسسات الدينية وعلى رأسها المسجد لابد وأن يكون لها دور في الشأن العام تعليما وتوجيها وتربية ونصحا…. دون أن تتحول هذه المؤسسات إلى أداة يتم توظيفها أو احتكارها سواء من طرف النظام أو من طرف الفاعل السياسي، تموقع اعتباري يحفظ لها مكانتها وحقها في الدفاع عن مصالح الأمة دون أن يزج بها في أتون الصراع السياسوي أو الحزبي.

تبنى الحضارات ويؤسس التقدم على ركائز عدة، لا شك أن أهمها ركيزة التربية والتعليم. ماذا تقترحون لتنهض الأمة وتؤسس لنفسها مسارا تعليميا مكينا؟

مما لا شك فيه أن التعليم من أهم العوامل المؤثرة في معادلة التحول المجتمعي بغض النظر عن طبيعة هذا التحول، حيث أن التعليم يمكنه أن يكون أداة لإنتاج المعرفة والوعي وقيم الخير والحرية والكرامة، ويمكنه كذلك أن يتحول إلى أداة تعيد إنتاج الظلم والقهر والجهل. وبهذا يمكن اعتباره الأرضية الحاسمة التي تدار فيها معركة المستقبل. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه في كتاب العدل: “وأعظم ميدان للمواجهة ميدان التربية والتعليم، ذلك الميدان الذي فيه يتقرر المستقبل، وعلى نتائج غرسه يتوقف مصير الأمة”. وبناء عليه كان لزاما على أصحاب المشاريع التغييرية إيلاء عناية خاصة لقضايا التربية والتعليم وتقديم تصورات وأطروحات قادرة على تجاوز الأزمة المركبة التي يعيشها القطاع.

وبالعودة إلى مشروعنا نجد الهم التعليمي حاضرا بقوة سواء من خلال كتابات الإمام وإنتاجاته الفكرية -خاصة وأنه فارس في المجال، خبر همومه وقضاياه من خلال مسار مهني حافل بالإنجازات- أو من خلال وثائق الجماعة وإصدارات مؤسساتها ذات الاختصاص. حيث نعتبره أولوية في البناء ونرى إصلاحه ضرورة الضرورات، فـ“نظام التربية والتعليم هو العَمود الفِقَري للدولة. وإعادة ترتيب هذا الجهاز ضرورة الضرورات في حياة الأمة. يجب إنشاؤه إنشاء جديدا، وصياغة قنواته، وسد منابع الفساد المُخَلَّفَةِ فيه لإعداد أجيال سليمة العقيدة والفطرة، مسلحة بالمعارف العملية التطبيقية”. ولن أقف هنا على رؤيتنا التشخيصية والتحليلية للواقع وما يعتمل فيه من إشكالات وأزمات تعيق منظومتنا التعليمية والتربوية عن أداء أدوارها المطلوبة، لكني سأكتفي فقط بالإشارة إلى بعض الأسئلة التأسيسية التي نقارب من خلالها مداخل التغيير المقترحة والتي يمكن إجمالها في خمس أسئلة محورية هي سؤال الإرادة السياسية، سؤال الرؤية المؤسِّسة، سؤال البنية المطلوبة، سؤال المناهج والبرامج، وسؤال اللغة. وتحت هذه الأسئلة التأسيسية تتناسل أسئلة فرعية حاولنا داخل جماعة العدل والإحسان أن نتفاعل معها ونقدم فيها رؤية متكاملة نعتبرها إسهاما يستحق العناية والإفادة منه.

وخلاصة الأمر في تصورنا أنه لا سبيل لنهوض أمة إن لم تختط لنفسها سياسة تعليمية قائمة على ثنائية التحرير والتنوير، تحرير العقول والإرادات من آفات الجهل والتقليد والعطالة والتبعية والانهزامية و….. وتنوير العقول لتشرق في العقل أنوار المعرفة والعلم والإبداع وتشرق في القلب أنوار العلم الأعظم والأشرف العلم بالله تعالى على مائدة القرآن الكريم مادة التعليم الأولى وأسها وأساسها. هكذا يكون التعليم قاطرة لتربية وتنشئة أجيال متصالحة مع دينها وهويتها ومتصالحة مع ما يطلبه عصر التطور العلمي والمعرفي.     

لا شك يضع مشروعكم تصورا للعلاقات بين الدول. على ماذا تتأسس هذه العلاقات؟ وكيف تتصورون علاقة الأمة مع محيطها والمنتظم الدولي؟

لا يمكن لأي مشروع مجتمعي طامح للإسهام في تخليص الأمة من واقع التبعية والانهزامية أن يسقط من حساباته موضوع العلاقات الدولية بكل تعقيداته وتحدياته. ونحن ندرك أن هذا الموضوع بالضبط كان دائما وما يزال خاضعا لخارطة ميزان القوة وما ترسمه من تحالفات وتقاطبات وأيضا ما تفرزه من تشنجات وعداوات تدفع كلفتها الشعوب المستضعفة في الأرض. لذا فنحن مدعوون لفهم هذه الخارطة واستيعابها والتفاعل مع مخرجاتها بما يسمح لنا ببناء مواقف متوازنة منسجمة مع مبادئنا وتفتل في حبل الأفق الذي نستشرفه والنموذج المستقبلي الذي نقترحه. نموذج طامح لصياغة جديدة للعلاقات الدولية قائمة على أساس التعارف والتراحم والحوار وحسن الجوار، مستندة في ذلك على مجموعة من المنطلقات التي يمكن تلخيصها في ثلاثية؛ الإنسانية المشتركة والتكريم المشترك والمصير المشترك. لكن هذه المنطلقات قد لا تغادر دوائر المثالية الحالمة التي تدغدغ المشاعر لا غير؛ كما قد تبقى عرضة للعبث بها إن لم تحصن بالقوة اللازمة للدفاع عن الأمة ورعاية مصالحها والدود عن مقدراتها المادية والمعنوية، حتى يحصن الحق بالقوة الضرورية للدفاع عنه وإسماع صوته ورد أي اعتداء عليه.

في الساحة مشاريع إلى جانب مشروعكم تزايله وتباينه، كيف تدبرون هذه العلاقة؟ وهل يمكن إيجاد صيغ فعالة لتعايش هذه المشاريع وتنافسها الإيجابي؟

للإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق أولا من مسلّمة بديهية وسنة كونية هي سنة التنوع والاختلاف، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا ما شاء ربك ولذلك خلقهم. فكما أن الناس يختلفون في أعراقهم وألوانهم وألسنتهم فكذلك يختلفون في أفكارهم ومعتقداتهم وقناعاتهم. أمام هذه الحقيقة الكونية يصبح التحدي هو في تدبير الاختلافات وتنظيمها والتأسيس لمساحات تستوعبها وتحسن إدارتها، وليس في القضاء عليها. أما المنطلق الثاني فهو مرتبط بطبيعة المشروع الذي نحمله؛ إذ له من المقومات ما يحصّنه من آفتي الانغلاق والإقصاء. فحينما يلح مشروعنا على مطلب الحرية ويعتبره مطلبا كليا جامعا لابد منه فهو بالضمن يدافع عن حق الجميع في التعبير عن آرائه واختياراته دون خوف أو ترهيب، وحينما يلح على مطلب اللاعنف ويعتمد منهج الرفق واللين فهو بالضمن يؤسس لفضاء إيجابي وآمن يحتضن الجميع، وحينما يلح على مطلب الحوار مع المختلف عنك أو معك فهو بالضرورة اعتراف بالآخر وبحقه في الوجود وفي التعبير عن نفسه وعن قناعاته وبحث إمكانات التقارب والتعاون الممكنة والمتاحة.

وعليه فإيجاد صيغة لتدبير العلاقة بين المشاريع المختلفة أمر متاح وممكن بل مطلوب من وجهة نظرنا، ولإنجاح هذه الصيغة والوصول بها إلى أعلى مستوى من الفاعلية والإيجابية لابد من مراعاة الشروط التالية:

·      الاعتراف والاحترام المتبادل وهذا أساس يبنى عليه.

·      البحث عن مواطن الالتقاء والتعاون وهي بالأكيد كثيرة ما توفرت الإرادات، نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.

·      الوعي بخصوصية المراحل إذ هناك مراحل انتقالية قد نحتاج فيها إلى التوافق حول مشروع واحد، يجسد إرادة العيش المشترك وقادر على العبور بنا عبورا آمنا نحو مرحلة أخرى نتطلع إليها، وهي مرحلة يحكمها نكران الذات والتعاون وليس التنافس.

·      تغليب المصلحة العامة على المصالح الضيقة والتعالي عليها وتجاوز عقبات الأنانيات والعصبيات.

والخلاصة أن المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان فناهيك عن أنه مشروع منفتح في روافده، فكذلك هو مشروع منفتح في نظرته وتفاعله مع باقي المشاريع الأخرى وإمكانات الربط والوصل بين نقط الالتقاء لديها دون مركب نقص ولا عقدة استعلاء. مشروع لا يسعى لفرض نموذج نمطي، بل يعتبر أن قوة المشاريع ليس في قضائها على التنوع والتعدد والاختلاف، ولكن في قدرتها على تنظيمه وتدبيره وتحويله إلى طاقة بناء وإعمار والله المستعان.