من كتاب المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
كم أخرج الموت نفساً من دارها لم يدارها، وكم أنزل أجساداً بجارها لم يجارها، وكم نقل ذاتاً ذات أخطاء بأوزارها، وكم أجرى عيوناً كالعيون بَعد بُعد مزارها.
يا مغرماً بوصال عيشٍ ناعـم ** ستصد عنه طائعاً أو كارهـا
إن المنية تزعج الأحرار عن ** أوطانهم والطير عن أوكارها
إخواني: قد حام الحمام حول حماكم، وصاح بكم إذ خلا النادي وناداكم، وأولاكم من النصح حقكم، فما أحقكم بالتدبر وأولاكم، وهو عازم على اقتناصكم، وما المقصود سواكم. كم أخلى الموت داراً فدارا؟ أما استلب كسرى بن دارا؟ أدارى لما أخذ داراً؟ أما ترك العامر قفاراً؟ أما أذاق الغصص المر مراراً؟ لقد جال يميناً ويساراً؟ فما حابى فقراً ولا يساراً.
يا هذا، مطايا العمر قد أعنقت وأنت في مسامرة الأمل، معاول الساعات تهدم حايط الأجل، فرايس المهج في مضابث أسد المنايا، أسنة القنا مشرعة ولا درع، عقارب الخدع دائمة للسع، غير أن خدران الغفلة يمنع الإحساس بسريان السم، آه من مثاقف ما ينتهي عن القتل، الناس في الدنيا ككيزان الدولاب، فالشاب مثل الممتلي، والكهل قد فرغ بعضه، والشيخ لم يبق فيه شيء. الشاب المتقي في مقام “يحبهم” والكهل المنحط في مرتبة خَلَطوا عملاً صالحاً والشيخ في حيز “تجدني عند المنكسرة قلوبهم”.
يا من قد انطوى برد شبابه، وخبيت خلع تلفه، وبلغت سفينته ساحل سفره، قف على ثنية الوداع، فلم تبق إلا ساعة تتغنم، لو فتحت عين اليقظة لرأيت حيطان العمر قد تهدمت، فبكيت على خراب دار الأجل. صاح ديك الإيقاظ في سحر ليل العبر، فما تيقظت فستنتبه، إذا نعق الغراب البين بين البين.
ومشتت العزمات ينفق عمره ** حيران لا ظفر ولا أخفـاق
لا في الشباب وافقت، ولا في الكهولة رافقت، ولا في الشيب أفقت، ولا من العتاب أشفقت، فكأنك ما آمنت بالمعاد ولا صدقت.
يا مقيماً على الهوى وليس بمستقيم، يا مبذراً في بضاعة العمر متى يؤنس منك رشد؟ يا أكمة البصر، لا حيلة فيها لعيسى، يا طويل الرقاد ولا نوم أهل الكهف، كيف يفلح من هو والكسل كندمائي جذيمة؟
الدنيا مضمار سباق، والليل سرى، وطلب الراحة تحنث:
فلا تحسبوا أن المعالي رخـيصة ** ولا أن إدراك العلى هين سهـل
فما كل من يسعى إلى المجد نالـه ** ولا كل من يهوى العلا نفسه تعلو
من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر، الرجولية بالهمة لا بالصورة، نزول همة الكساح حطه في بئر الأنجاس، قنديل الفكر في محراب قلبك مظلم، فاطلب له زيت خلوة، وفتيلة عزم بينك وبين المتقين حبل الهوى، نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل منزل تلحق، لو علوت نشز الجد، بانت بانة الوادي.
للمهيار:
إن كنت ممن يطلع الوادي فسلْ ** بين البيوت عن فوادي ما فعلْ
عز هـواكِ فـأذلَّ جَـلَــدي ** والحب ما رقَّ له الجَلْـد وذلّ
أين ليالينا على الخـيف وهـل ** يرد عيشاً فائتاً قـولـك هـل
يا مقيداً بقيود الطرد، الق نفسك في الدجى على باب الذل، وقل إلهي، كم لك سواي ومالي سواك، فبفقري إليك وعناك عني، ألا عفوت عني.
أيا منعماً لم يزل محسـنـاً ** برى جسدي سخطك الدائمُ
إلى النحر مني مضمـومة ** يداي كما يفعـل الـنـادمُ
يزل الحليم ويكبو الجـواد ** وينبو عن الضربة الصارمُ
يا هذا، ليس في المياه ما يقلع آثار الذنب من ثوب القلب إلا الدموع، فإن نضبت ولم يزل الأثر فعليك بالاغتراف من بحر الاعتراف.
ودعت قلبي حين ودعتـهـم ** وقلت يا قلبي عليك السـلامُ
وصحتُ بالنوم انصرف راشداً ** فإن عيني بعدهـم لا تـنـامُ
احضر نادي المتهجدين ونادهم طوبى لكم وجدتم قلوبكم فارحموا من لا يجد:
إذا وصلتم إلى وادي العقيق سلوا ** عن حال منقطع أودى به السهر
وفتشوا عن فؤاد هـائم قـلـق ** قد ضاع مني فلا عين ولا أثـر
أنجع الوسائل الذل، وأبلغ الأسباب في العفو البكاء، والعي عن ترتيب العذر بلاغة المنكسر.
يا من أشكو إليه ما يعـلـمـه ** والدمع يذيع كلمـا أكـتـمـه
هذا المسكين من ترى يرحمـه ** قد هان عليه كلـمـا يؤلـمـه
بالجسم من السقام ما يحرضـه ** والقلب يذوب من جوى يمرضه
ما قد حكم الإله من ينـقـضـه ** قد أعوزني الصبر فمن يقرضه