معركة بدر ومعركة الطوفان من مشكاة النبوة

Cover Image for معركة بدر ومعركة الطوفان من مشكاة النبوة
نشر بتاريخ

في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان، حلّت علينا ذكرى غزوة بدر، متزامنةً مع استئناف العدوان الظالم الذي يشنّه الكيان الصهيوني على أهلنا في غزة، في إطار معركة طوفان الأقصى. وإن الله سبحانه وتعالى جعل الوقائع والأحداث عبرةً وعظة، وأمرنا بالتأمل في الماضي والحاضر لأجل المستقبل، حتى نتعلم من التاريخ، وندرك سنن الله الخالدة التي تسري على الأولين كما تسري على الآخرين.

في إطار هذا التأمل والاعتبار نرى غزوة بدر الكبرى وطوفان الأقصى ينطلقان من مشكاة واحدة هي مشكاة النبوة، فيتطبقان في وقائع ويتميز كل منهما في وقائع أخرى.

أولا: أوجه التطابق بين بدر والطوفان:

القدوة رسول الله

غزوة بدر الكبرى وطوفان الأقصى كان أبطالهما من كان قائدهما وقدوتهما وأسوتهما رسولُ الله ﷺ. وكلاهما تربّى على المنهاج النبوي الذي رسم معالمه رسول الله ﷺ، وكلاهما كان دافعه ومحركه الاستجابة لأمر الله والامتثال لهدي نبيه الكريم. وكلاهما كان جهاده يقينا في نصر الله وموعود الله وبشارة رسول الله.

دفاعا عن المظلومية

غزوة بدر كانت دفاعًا عن مظلومية عظيمة تعرّض لها الصحابة الكرام، إذ أُخرجوا من ديارهم، وسُلبت أموالهم ودورهم، فاستجابوا لنداء الحق، وخرجوا ليعترضوا قافلة قريش، ليستردّوا منها أموالهم ومتاعهم، وليساوموا بها على حقوقهم وممتلكاتهم التي فُجعت قلوبهم بفقدانها. كانت بدر بداية لرفض الظلم وتحرير الحقوق. وكذلك جاء طوفان الأقصى لردّ الظلم الذي فرضته الصهيونية على الشعب الفلسطيني على مدار سنوات طويلة من القتل الممنهج، والأسر العشوائي، والحصار الخانق، والتجويع المتواصل. جاء طوفان الأقصى ليكسر قيود هذا الحصار، وليصمد في وجه الآلة العسكرية المحتلة، وليأسر الجنود الصهاينة ليساوم بهم دفاعا عن الأرض والعرض والأرواح والأسرى والمقدسات، في ردّ تاريخي على ظلمهم، حيث سطّر المقاومون ملحمة جديدة في معركة لا تتوقف عند حدود الأرض، بل تصل إلى عنان السماء، وتفتح أبواب الأمل بتحقيق وعد الله بالنصر والتمكين.

مشيئة الله

وإذا كانت غزوة بدر قد أراد بها الرسول وصحابته أمرًا، وهو اعتراض القافلة، إلا أن الله أراد بها أمرًا آخر، وهو لقاء العدو في ساحة المعركة، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا؛ فإن يوم 7 أكتوبر من طوفان الأقصى أراد به المقاومون أسر جنود الاحتلال من أجل المساومة، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون اللقاء مواجهةً شاملة في معركة طوفان الأقصى، التي استمرت لأكثر من عام ونصف، لحكمةٍ يعلمها الله سبحانه وتعالى، قد ندرك بعضها اليوم لكن الأيام ستكشفها كلها غدا.

نصر رغم اختلال الموازين

 وإذا كانت غزوة بدر قد اختلّت فيها الموازين المادية، ولم تكن متكافئة عددًا وعدةً، حيث كانت في صالح الأعداء؛ فإن طوفان الأقصى كذلك كانت موازينه مختلّة وغير متوازنة، وكانت الغلبة الظاهرية في صالح الأعداء. لكن الله سبحانه وتعالى أجرى في كلا المعركتين نصرًا للفئة القليلة على الفئة الكبيرة، ليُظهر سننه وحكمته، وليثبت إنما النصر من عند الله. قال الله تعالى كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: 249)، وقال سبحانه إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران: 160).

حدث تاريخي

وإذا كانت غزوة بدر حدثًا تاريخيًا أحدث منعطفًا استراتيجيًا في تاريخ الإسلام، فإن طوفان الأقصى بدوره يشكّل حدثًا تاريخيًا يُحدث منعطفًا استراتيجيًا في حياة الأمة، ممهّدًا لوعد الله وبشارة رسوله ﷺ، وهو وعد الآخرة. فالأول جاء في مطلع عهد النبوة والخلافة، والثاني يأتي كذلك في مطلع عودة الخلافة على منهاج النبوة، كما بشّر بذلك رسول الله ﷺ، ليُجدد للأمة دربها نحو العزة والتمكين.

تنكيس لأعلام العدو

وإذا كانت غزوة بدر قد نكّست أعلام قريش، وقضت على غرورها، وأسقطت هيبتها، وكسرت شوكتها، فإن طوفان الأقصى قد أسقط أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ليُحطّم الأوهام التي روجت لها الصهيونية على مرّ السنين، فمرّغ أنفها في التراب، وضرب أمنها في مقتل، وهزّ فخر صناعتها العسكرية، ليعيد إلى الأذهان أن الإرادة الإيمانية والصمود في الحق أقوى من أي قوة مادية مهما كانت.

اختبار واختيار

كما كانت غزوة بدر ابتلاءً واختبارًا لصدق الصحابة وثباتهم، حين خيّرهم رسول الله ﷺ بين العودة أو مواجهة العدو، إذ بدر هجوم لا دفاع، فاختاروا طريق الإيمان والجهاد، وانتصروا وتزيّنت بدر بدماء شهدائها، كذلك كان طوفان الأقصى امتحانًا لعزيمة المقاومين، إذ وُضعوا أمام خيارين: التراجع أو المواجهة، إذ 7 أكتوبر هجوم لا دفاع، خارج الأرض لا داخلها كما في بدر، فاختاروا الخروج واللقاء، ولم يتخلّف منهم أحد، فاصطبغت أرض الأقصى بدماء الشهداء، كما ازدانَت بدر بدماء من سبقوهم على درب التضحية والفداء.

سواعد الشباب

وإذا كان نصر غزوة بدر قد صُنع بسواعد الشباب، أولئك الذين تسابقوا إلى ساحة المعركة بإيمان لا يتزعزع، وقلوب نابضة بالعزيمة، فحملوا السيوف بثبات، وواجهوا التحديات بصلابة، حتى نقشوا أسماءهم في سجل الخالدين، فإن طوفان الأقصى قد صاغ مجده شباب المقاومة أيضًا، شباب لم تثنهم قلة العتاد ولا شدة الحصار، فهبّوا حاملين أرواحهم على الأكف، يقاتلون بعقيدة صافية، ويخوضون المعارك بعزم لا يلين، ليعيدوا للأمة وهج العزة، ويثبتوا أن روح بدر لم تزل حيّة في قلوب المؤمنين. فإذا كان من شهداء شباب بدر عمير بن أبي وقاص، فإن من شباب الطوفان المقاوم الأنيق، وصاحب مقولة حلل يا دويري والشهيد الساجد.

المدد الإلهي

وإذا كانت غزوة بدر قد نُصرت بالمدد الإلهي، حين أيد الله عباده بملائكته، وثبّت أقدامهم، وألقى الرعب في قلوب أعدائهم، فإن طوفان الأقصى قد نُصر كذلك بمدد إلهي غيبي، شاهده أهل الطوفان ولمسته قلوبهم، إذ تجلّى في ثبات المجاهدين رغم اختلال موازين القوى، وتسديد رميهم في وجه عدو مدجج بالسلاح، وتزلزل قلاع الباطل رغم جبروتها. واختراق صفوف العدو رغم تعقيداتها وتحصيناتها، والمقاتلة من نقطة الصفر والرجوع السالم الغانم. لقد تناقل الأبطال أخبار الكرامات التي رافقت معركتهم، كما تناقلها من قبلُ أهل بدر، فكان النصر في كلا المشهدين آية من آيات الله، تذكيرًا بأن العبرة ليست بالعدة والعتاد، بل بالإيمان واليقين بوعد الله الحق، وأن مدد السماء لا ينقطع عن أهل الأرض، أهل الصبر والجهاد”. قال تعالى “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ”

ثانيا: أوجه التميز بين غزوة بدر الكبرى وطوفان الأقصى

هذه أوجه التشابه بين المعركتين، أما أوجه الاختلاف التي تميز معركة الطوفان بخصوصيتها وفضلها، فيمكن رصدها فيما يلي:  

النصر الحاسم ونصر الصمود

إذا كانت غزوة بدر قد توّجت بنصر حاسم رسم ملامح المجد الإسلامي الأول، فإن طوفان الأقصى قد توّجت بنصر الصمود الأسطوري، الذي استمر قرابة عام ونصف، وقدّم فيه آلاف الشهداء والجرحى قربانًا للحرية والكرامة. ولم يكن ذلك نصرًا ميدانيًا فحسب، بل كان انتصارًا استراتيجيًا ممهِّدًا لوعد الآخرة، فمجاهدو غزة من الزمرة التي بشر بها رسول الله ومدحها وأثنى عليها قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” وأخرجه أيضا الطبراني .

البداية والنهاية

وإذا كانت بدر فاتحة عهد النبوة وانتصارات الأمة الإسلامية، جاء طوفان الأقصى ليكون محطة فاصلة على طريق التمكين في آخر تاريخ الأمة، إيذانًا بمرحلة جديدة تتجه نحو تحقيق بشارات رسول الله ﷺ بانتشار الإسلام وسيادة العدل والأمن في العالم.

الصحبة والأخوة

وإذا كان أبطال غزوة بدر هم صحابة رسول الله ﷺ، الذين تشرفوا بصحبة المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام وحملوا رسالة الحق في أوقات الشدّة، وثبّتوا أركان الإسلام بدمائهم وتضحياتهم، فإن أبطال طوفان الأقصى هم إخوان رسول الله، الذين أقرأهم رسول الله سلامه وبشر بهم فساروا على ذات الدرب، واقتدوا بخطاهم، فنسجوا من صبرهم وجهادهم مجدًا جديدًا للأمة، ليكون لهم شرف الأخوة إن فاتهم شرف الصحبة. فهم أمنوا بمحمد بن عبد المطلب نبيا ورسولا وإن لم تراه عيونهم لكن رأته قلوبهم وأرواحهم، مستبشرين بوعد الله الذي لا يتخلف، والنصر الذي لا يتأخر. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَدِدْتُ أنِّي لَقيتُ إخواني، فقال أصحابه: أوليسَ نحنُ إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنُوا بي ولم يَرَوْنِي” رواه أحمد وصححه الألباني.

فضل في الأجر

كان أبطال الأقصى تلاميذ مدرسة النبوة، استناروا بمنهجها، وساروا على خطاها، ففازوا بشرف الأخوة كما فاز الأولون بشرف الصحبة لكنهم امتازوا عن الأولين بمضاعفة الأجر والثواب، إذ صبروا على البلاء، واحتملوا المحن، وقبضوا على الجمر بثبات. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ”. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: “قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ”.

محلي وعالمي

وإذا كانت غزوة بدر معركة محلية بين قريش والمسلمين، فإن طوفان الأقصى معركة عالمية على صعيد الصراع الوجودي، تكالبت فيها قوى الظلم من الصهيونية العالمية وحلفائها، لتعكس حقيقة وعد الآخرة، بأنه مواجهة كبرى بين الحق والباطل وبين الإسلام والجاهلية وبين الاستضعاف والاستكبار.

لكن صمود أهل الطوفان أمام هذا التكالب العالمي، يجعل لهم نصيبا من معركة الأحزاب التي تكالب فيها الأعداء على رسول الله وصحبه، فكان لطوفان الأقصى نصيب من بشائرها ومجرياتها ونصرها وتأييدها.

قال تعالى: هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين)138 (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140).